أحيانا أقول لماذا اكتب ولمن أكتب طالما أن لا أحد سيتقاسم معي وجعي؟ لمّا سألوا الأديب الروسي دتسوفيسكي لمن تكتب كل هذا القصائد وفنون الحديث والكلمات التي تتلاعب انت بها كما تشاء قال لهم أكتب لنفسيتي، عندما أكتب كأنني تحررت من ضغوط الحديث المباشر لأن الكتابة هي فن من فنون القتال الصامت الذي أكون انا هو قائده! أكتب لأنتصر على الجَلاّد، وعلى المقصلة، ولكي يذكرني التّاريخ بخير، لأنّني أُدرِك تمامًا أنّ التّاريخ لا يَنسى ولا يُنسَى.
وما دامت الكتابة نضال مقدس فإنني سأكتب، وسأكتب قصص الجحود والنكران عند أولئك الحمقى والعيارين وخيباتهم كلها، وسأضع المجهر على الأشياءِ كلها وتلك التي اختفت أيضاً بالتقادم والتراخي، لتتضح أمام الجميع بحقيقتها المجردة، سأكتب عن دورة حياة أناس جاحدين وجدتُ فيهم أرواحاً عارية وأفئدة تآكلت وعقولاً اعتراها الصدأ، أكتب لأواجه نفسي فهناك تجربة عالقة بداخلي أريد أن أستخلص حكمتها ومن ثمّ أمنحها للقريب والبعيد، وانني بذلك أقوم بتنقية ما بداخلي من خيباتٍ عالقة منذ عقود وأتخلّص من الكلمات المتكدِّسة بداخلي،
ما في الأرض أسوأ من جاحد، ناكر للمعروف، أن تسمع عن الجاحد خير لك من أن تراه، أو تناقشه أو تحاوره أو تجالسه، لأنه لديه مشكلة لكل حل، منحطّ أخلاقياً، يستدرجك الى مستواه ثم يستفزك ثم يغلبك!
من أصعب المشاعر في هذه الحياة حينما تشعر بالجحود، إنه يختطف الطيبة من داخل قلبك، يغتال البراءة في معدن النفوس. أقسى شيء حينما تشعر أن العطاء يقابل بالجفاء، والإحسان يقابل بالإساءة، والحب يقابل بالتجاهل، أصعب المرارات عندما تكتشف أنك أعطيت، ليكون المقابل هو النكران.
وكم علمته نظم القوافي، فلما قال قافية هجاني، وأعلمه الرماية كل يوم، فلما اشتد ساعده رماني ما أقسى أن تُبتلى يا صاح، بأناس جبلوا على نكران المعروف، وتعودوا الكذب. لغتهم الشتائم والسباب، سمتهم الكِبر، حساباتهم مبنية على الانتهازية وهدفهم الإيقاع في الأخيار حتى يواروا سوءاتهم.
ما أقسى أن تتفاجأ يا صاح، بأن من أخذت بيدهم ومنحتهم الثقة وتحمّلتَ سوءاتهم عقوداً من الزمن تتفاجأ بالتجافي ونكران الجميل. إنه زمن المرارة في عالم الجفاف.
كنتُ أسير في حياتي بعفويتي وطيبتي، أفتح الأبواب للآخرين، أقدم لهم ما أستطيع، لا أنتظر المقابل، فالزهور حين تورق، والسماء حينما تمطر، لا تنتظر المقابل. هكذا كنتُ عفوياً، أتأقلم ببساطة، تفرحني الأشياء البسيطة التي يراها البعض سخيفة وساذجة، تسعدني الأفكار والأحلام والعواطف الخيّرة.. أتقنُ كتمان الألم والتظاهر حتى يفرح الآخرون،
أنا الآن أُخفي حزناً ووجعاً وأنا أخوض معركة ضارية مع الحياة، أصبرُ على علاقات كثيرة الشّد، كثيرة الاستفزاز كثيرة الوجع مليئة بسوء الظن، أعيش العمر ألهثُ وراء التبرير وإثبات البراءة! وغالباً ما أحاول وأنا أقف على خط المواجهة مع أناس بقلوب حمقاء سيئو المنطق أن أصنع سعادتي من أدواتي المتوفرة لديّ مهما كانت صغيرة ...
لم أكن أتوقع كل هذا الجحود وهذا النكران، حقاً: والبلد الطيب يَخرج نباتُه بإذن ربه، والذي خَبُث لا يَخرُج إلا نكِداً.
سلاماً على الذين إن خاننا التعبير لم يخنهم الفهم، وإن فسدت مفرداتنا أصلحوا نواياهم!