مع أنهم عادة لا يصلون أبدا باستثناء الشيخ.. ويبدو الدين في تلك الفترة المبكرة لم يأخذ حيزا حقيقيا لا عند المسلمين أو المسيحيين سواء علي مستوي الطقوس أو التفكير والنصاري هنا لا يؤمون الكنيسة، ولا حتي في أيام الآحاد، ولا يصومون أبدا، ومعهم حق في ذلك، فالكاهن يتلو القداس باللغة اليوناينة وهم لا يفقهون حرفا مما يقول... .
وينتبه بيركهارت إلي بيوت الكركيين وتجارتهم،ومحاصيلهم، ويبدو أن استعمال النقود كان نادرا فالبيع كان يتم بالمقايضة، ويروي أن جميع تجار الكرك هم من أهل الخليل، كما كان الكركيون يشترون الرقيق (الزنوج وغيرهم) من الحجاج القادمين من الحجاز، وقد وصل بيركهارت إلي غور الصافي والمناطق التي تجاوره، ووصف أحوال الغوارنة البائسة بسبب الفقر والحرارة والأمراض، ويصف أيضا اشجار المنطقة ومعادنها، وخصوصا القار الذي يخرجه البدو من البحر الميت، ويبيعونه، وهو أمر يدل علي تواصل حقيقي مع ما كان الأنباط يفعلونه من قبل.
في 4 آب (اغسطس) 1812 غادر بيركهارت برفقة الشيخ يوسف المجالي وأربعين فارسا إلي خارج الكرك باتجاه الطفيلة،وقد مر علي كثربا والعراق وخنزيرة الطيبة حاليا وقد استفاد من هذه الرفقة بخبرات عن البدو وحياتهم وأفضل وسيلة للتعامل معهم، وقد وصل الطفيلة يوم الثامن من آب (اغسطس)، ويروي أن بها 600 بيت، و99 نبعا، وبساتين فاكهة وأشجار زيتون كثيرة، وكان الأهالي يجففون محصول التين في قوالب ضخمة ويصدرونها إلي غزة، أما حيوانات الطفيلة وطيورها التي انتبه لها بيركهارت هي نسور الرخمة، والغربان والخنازير البرية، والماعز البري أو البدن وكذلك طيور القطا، وبالطبع يشير الرجل إلي كرم أهل الطفيلة الذي لا ينسي، وقد غادرها باتجاه بصيرة، ووصفها مع ضانا وصلفحة، وسلمه الشيخ المجالي إلي أحد مضارب الحويطات، وأوصي به خيرا،وقد قاده أحد الأدلاء بعدها إلي الغوير وأخيرا الشوبك وقلعتها الشهيرة التي كانت مأهولة من مائة عائلة من الملاحيم ، وثمة مخيم لبدو الهباهبة إلي الشرق من القلعة كما يذكر، أما عرب الحويطات فقد كانوا قد تخلوا عن المذهب الوهابي الذي اعتنقوه لسنة واحدة، وأصبحوا من أنصار محمد علي باشا، كان هدف بيركهارت أن يصل وادي موسي ليشاهد الآثار التي كان قد سمع عنها من الناس الذين قابلهم في ترحاله، ومن هناك ينطلق مباشرة إلي القاهرة، وكان قد أمضي ليلة في مضرب خيام الرفايعة المتخصصين بزراعة العنب وتصدير الزبيب لغزة، إضافة إلي شجاعتهم المعروفة كفرسان.
البتراء أعجوبة من صنع الجن
وفي 22 آب (اغسطس) وصل الرحالة السويسري إلي وادي موسي التي يسكنها عرب اللياثنة، وقد أشار
عليه دليله أن يقدم ذبيحة نذرا لهارون فوق كومة من الحجارة مثل عادة الأهالي والزوار، ولكن بيركهارت أصر علي ذبحه بجوار الضريح تماما (كنت وحيدا بلا حماية في مكان لم يدخله أجنبي أو سائح من قبل،وإذا قمت بفحص هذه الآثار أو رسمها أو كتابة شيء عنها أمام هؤلاء الأعراب الذين يحفون بي فإن فهمهم الوحيد لتصرفي هو أني ساحر أقرأ الطلاسم وأدمدم لأخرج الكنوز الدفينة في هذا المكان، وفي هذا الحال سيقومون بضربي وتعذيبي لأقاسمهم الكنوز أو أدلهم علي أمكنتها وإذا أبيت أو أنكرت معرفتي بذلك أو حاولت شرح مهمتي لهؤلاء السذج فإنهم سيسلبوني متاعي ويمزقوا أوراقي التي هي أهم ما أحرص عليه في حياتي). ويبدو أن هذا الشاب ذي الثمانية والعشرين خريفا القادم من صقيع أوروبا قد بالغ في الأمر، أو أن السيناريو الذي ذكره كان في خياله أكثر مما كان في الواقع، وفي يوم 23 آب (اغسطس) دخل إلي البتراء مرورا بالسيق، وقد بدأ وصفه له ولحجارته، ولقنوات الماء علي جانبيه، ويروي ساخرا أن دليله أخبره أن كل ما يراه هو من صنع الجن، وقد هاله رؤية بناء الخزنة المنحوت بالصخر بعد أن مل من جدران السيق، فمنظرها (يخلب اللب لجمال نحته، وحسنه الذي لا مثيل له في جميع الآثار التي شاهدتها في سورية، ولم تؤثر عليه حوادث الأيام فكأن النحاتين قد تركوها لتوهم لتناول الغداء، وأستطيع أن أؤكد أن أي فنان مهما عظمت مكانته في العصر الحديث أو القديم لا يستطيع أن يدعي أن بإمكانه الزيادة أو التعديل على هذا الأثر الجميل شيئا لأنه كامل، وأثر بالغ العظمة).
انطلق بيركهارت بعدها في التجول في المدينة وزيارة أضرحتها، وكان يسجل ملاحظاته، والقياسات والأعداد التقريبية بالنظر، فقد كان يخشي أن ينظر له كباحث عن الكنوز أو أحد الكفرة الإفرنج ، ولما أن أقبل الليل قبل الوصول لضريح هارون اكتفي بيركهارت ودليله بذبح الشاة في السهل القريب منه وعادا دون رؤية الآثار القريبة من الضريح (وقد تعلمت أن على الرحالة أن يري كل بعينيه أما أقوال البدو فلا يعتد بها، فهم يبالغون في وصف الأشياء التافهة ولا يأبهون بالأشياء الجديرة بالدراسة والاهتمام،.... وقد ذكر المؤرخ الروماني يوسيبوس أن قبر هارون يقع قرب مدينة البتراء العربية وهذا ما اقتنعت به تماما، ويعطي البرهان علي أن وادي موسي هو مدينة البتراء وأنه لا توجد آثار بين البحر الميت والبحر الأحمر سوي هذه الآثار، ومعنى هذا أنني أول مكتشف أوروبي يرى البتراء).
وهذا ما كتبه الرحالة في رحلته وهذه ترجمته وما زال الكثير الذي لم يكتب عن بلادنا الغنية والثمينة بالقصص وغيرها ممن هو مجهول.