لقد كثرت أحاديت السياسة والحرب وطغت مواضيع الثورات العربية وما جرى في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والعراق والسودان كما برزت التهديدات الأمريكية والإسرائيلية لإيران على سطح الأحداث . فالناس يتكلمون في النوادي والمقاهي والمجالس . والأغرب من هذا كله أن كل الناس أصبحوا خبراء في السياسة وفي الحرب وفي الصواريخ وفي الإستراتيجية . لكل منهم تحليله الخاص ونظرته الشخصية ورأيه المميز وأصبحت المواقع المتعددة والفيس بوك والتويتر مراتع خصبة لتبادل الأخبار ونقل المعلومة ومصدراً لا ينضب للإشاعة أحيانا وللحقيقة في أحيان أخرى..
كما تعددت في الآونة الأخيرة الترجمات والكتابات التي تناقش من بعيد أو قريب مواضيع السلم والحرب والإستراتيجية وميزان القوى . فامتلأت الصحف بالأرقام وخصائص الأسلحة وأغفلوا عن قصد أو غير قصد أن هذه الأرقام كما جردوها قد جاءت قاحلة وجرداء . وخطورتها أنها تقود القارىء العادي الى استخلاص نتائج تغاير أرض الواقع.
لقد أعجبني حوار أطرش دار بين متعصب للجيش الإيراني ومتعصب للجيش الأمريكي بأن إيران سوف تفاجىء أمريكا في حال وقوع أي حرب بينهما وأنها تمتلك العديد من الأسلحة الإستراتيجية والصواريخ العابرة للقارات إلخ فأجابه الشخص الآخر إن حرب إيران مع العراق تحملت 8 سنوات لم تأخذ إيران فيها حقا ولا باطل بينما قامت الولايات المتحدة بإحتلال العراق وإسقاط النظام في مدة 19 يوما .
ومن منطلق أن المعلومات هي مصدر للقوة وبقدر ما يعرف الإنسان بقدر ما يتميز . أخذ الذين لا يعلمون بإختلاق المعرفة وأصبح رجال المعرفة صامتين . وأصبحت كلمة الحق الواعية أشبه بالعملة النادرة وأصبح قائلها في عداد الأبطال حتى لو كان الموضوع يمس حياتنا وقضايانا المصيرية.
تجدر الإشارة الى أن هناك أكثر من 168 مركز متخصص بالدراسات الإستراتيجية والعسكرية في العالم ثلاثة منها في إسرائيل وإثنان فقط في روسيا وعشرة مراكز في فرنسا وعشرون في بريطانيا وثلاثة وعشرون في الولايات المتحدة .
ومن جملة هذه المراكز المتخصصة يقوم كل من المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن ومؤسسة جينز للدراسات والبحوث ومعهد ستكهولم لأبحاث السلام ومؤسسة راند للأبحاث ومركز الدراسات الإستراتيجية في جامعة تل أبيب . ومعهد القوات المسلحة للدراسات الدفاعية ومعهد بروكنز ومركز وودرو ويلسون الدولي للباحثين بتزويد العالم بالمعلومات وبالأرقام والمقارنات وصفقات التسلح في العالم واستعراض أحدث أنواع الأسلحة والى عقد مقارنات بين جيوش العالم من حيث كمية ونوعية السلاح والهيكل الإداري وتقسيم الجيوش البرية والبحرية والجوية ومشاة البحرية والقدرة الصاروخية والنووية والنفقات الدفاعية والقواعد والتحالفات العسكرية
ولكي لا نضيع الفرصة على الباحث العربي في بحثه عن ميزان القوى العسكري في خضم هذا المحيط الهائج من المعلومات فإنني سأعمد الى تلخيص بعض النقاط والحقائق التي يجب على الباحث أخذها بعين الإعتبار والتركيز عليها أولا لصلتها الوثيقة بصلب موضوع ميزان القوى العسكري وثانيا لأنها تشكل عنصراً مساعداً لتفهم ميزان القوى الرقمي وإضفاء طابع تحليلي أكثر ديناميكية لأبرز التطورات التي لحقت بالقوات المسلحة البرية والجوية والبحرية. وبالتالي توضيح مدى تأثير هذه التطورات على القدرات العسكرية في التطبيق القتالي العملي على أرض الواقع.
الحقائق التي يجب أن نبحث عنها:
1- كفاءة القيادة الإستراتيجية على المستويين السياسي والعسكري :
إن ميزان القوى بين أي طرفين متجابهين لا يستند الى المقومات العسكرية المادية المباشرة .
أي عدد الأسلحة والقوات ونوعية المعدات أو قابليتها للإستخدام في الزمان والمكان المناسبين سواء من حيث الجاهزية القتالية للأسلحة والمعدات والأفراد . أو من حيث سرعة الحشد ودفع القوات الى النقاط الهامة . وإنما يتبلور توازن القوى العسكرية المادية في التطبيق العملي الفعال والمؤثر على نتائج الصراع من خلال مدى كفاءة القيادة الإستراتيجية على المستويين السياسي والعسكري ومدى تحديدها للهدف المطلوب من القوة العسكرية أن تحققه .
ومدى صحة تقديرها لحجم ونوعية القوة التي ستحققه. فمن إطار المبدأ الإستراتيجي المعروف بالإقتصاد والقوى . ثم ومن خلال مدى صحة وكفاءة تنفيذ الخطة الإستراتيجية السياسية والعسكرية الموضوعة لتحقيق الهدف السياسي والعسكري للحرب.
2- الجانب الخاص بالقدرات التنظيمية والقيادية للقوات المستخدمة لهذه الأسلحة والمعدات :
رغم أهمية توازن مختلف عناصر القوة العسكرية المادية بين أي طرفين متجابهين في تقرير نتائج المجابهة المسلحة بينهما سواء من حيث الكم أو النوعية للأسلحة والمعدات فإن جانبا رئيسا يحكم توازن القوى العسكرية لا تظهره أي تقارير رقمية مقارنة لهذه القوى حتى لو تضمنت عرضاً أو تحليلاً للقدرات التقنية والتكتيكية لهذه الأسلحة . ألا وهو الجانب الخاص بالقدرات التنظيمية والقيادية للقوات المستخدمة لهذه الأسلحة والمعدات وذلك من حيث كفاءة القيادات والقادة على مختلف الأنساق والمراتب. ومن حيث مدى تلاؤم هذه الأسلحة والمعدات مع أشكال التنظيم وأشكال القتال الجاري استخدامها في مواجهة أشكال التنظيم والقتال التي يطبقها الخصم.
وما إذا كانت تعطي للأسلحة والمعدات أفضل مردود تكتيكي وعملياتي . وكذلك من حيث مستوى التدريب واللياقة للقوات المستخدمة لها. ومن حيث مدى كفاءة نظم وخدمات الإمداد والتموين والصيانة والإتصالات والإستطلاع والإستخبارات . سواء من حيث دقة العمل وسرعته وتلبيته للإحتياجات الرئيسة للقوات. فضلا عن وسائل النقل والحركة والإخلاء للأفراد والمعدات والخدمات الطبية الخ.. لأن هذه النواحي غير المرئية في ميزان القوى تلعب دورا هاما للغاية في تقرير نتائج القتال في حال تقارب مختلف العناصر الأخرى في ميزان القوى العسكري لدى الطرفين .
وغني عن البيان أن نشير الى ما يلعبه عنصر القوى المعنوية والعقيدة والإيمان في تقرير مصير أي صراع مسلح أياً كانت أوضاع ميزان القوى المادي بين الطرفين المتجابهين في حالة من التوازن الكمي والنوعي في السلاح والعتاد والقوات . وهو أمر يعود النجاح فيه أو الفشل الى القيادات السياسية والعسكرية العليا . وصحة اختيارها للهدف وكفاءة تنفيذها له وتعبئة الطاقات المعنوية والسياسية من أجله.
3- عناصر البنية التحتية:
يجب أن نضع في الإعتبار أهمية الدور الذي تلعبه مختلف عناصر البنية التحتية للمجتمع في تقرير قوته العسكرية المادية . تلك العناصر التي تضم الموارد البشرية المتاحة كما ونوعا " الأمر الذي يؤثر فيه مستوى الخدمات الثقافية والصحية والإجتماعية في البلد المعني " والموارد الإقتصادية المتوفرة والممكن حشدها لصالح المجهود الحربي . وحجم وقدرات خدمات النقل والإتصالات والمواصلات وطاقات الكهرباء والوقود الخ ... وكل هذه العناصر تلعب دوراً رئيسا وحاسما في تقرير مصير كل مجابهة عسكرية بين الأطراف المتصارعة خاصة في حالة الحروب الطويلة.
4- عنصر العلاقات الدولية
كما وأنه يجب ألا يغيب عن الذهن أهمية الدور الذي يلعبه عنصر العلاقات الدولية لأطراف الصراع في دعم قدراتهم العسكرية من حيث توفير إطار استراتيجي عام مناسب لإستخدامها بفاعلية " أي تأمين المناورة الخارجية " أو من حيث ضمان تحييد حلفاء الخصم الدوليين عسكرياُ على الأقل . أو من حيث ضمان الإمداد بقطع الغيار والذخيرة والتعويض عن الأسلحة والمعدات المعطوبة في الوقت المناسب . وبالكميات الكافية لحسم ميزان القوى أثناء الصراع المسلح.
5- التمييز بين المصطلحات المستعملة في ميادين السياسة والحرب
هناك أكثر من مصطلح وأكثر من معنى وبكل أسف فلقد درج الكثيرون على ذكر مصطلحات لم يعمدوا الى تعريفها بل وأخطأوا في استعمالها ولم يتقيدوا بمدلولاتها ولعل أكثر هذه المصطلحات استخداما هي
أ: الإستراتيجية القومية .. وهي تعني الإستغلال الكامل للقوى السياسية والإقتصادية والنفسية والعسكرية للدولة في السلم والحرب لتحقيق الأهداف التي تضمن سلامتها وأمنها.
ب: الإستراتيجية الحربية.. وهي الإستغلال الكامل للوسائل العسكرية لتحقيق أهداف الإستراتيجية القومية بالإستخدام المباشر أو غير المباشر للقوات العسكرية للدولة أثناء السلم والحرب .
والإستراتيجية العسكرية السليمة للدولة هي التي تحقق القوة للدولة بما يكفل منع نشوب الحرب أو تحديد مداها إذا نشبت أو تمكننا من شن الحرب بنجاح.
ج: الأمن القومي .. وهو محصلة الإتصالات المتبادلة بين الدولة وبيئتها القريبة والبعيدة . وهذه المحصلة تعكس قوتها واستعدادها ووسيلتها وقدرتها التنفيذية في الدفاع عن مصالحها الحيوية وتحقيق غاياتها القومية.
ويجب أن نوضح هنا بأن من واجب كل دولة التخطيط للسلام بقدر ما يتوجب عليها التخطيط والإستعداد للحرب . علماً بأن مفهوم الحرب هو فن الحفاظ على الحياة وليس تدميرها بعكس مفهوم اليوم القائم على أقسى أنواع التطرف وفقدان قنوات الإتصال الإنسانية.
الخلاصة:
إن ميزان القوى العسكري بين أي طرفين متنازعين لا يتقرر تأثيره الفعال لصالح أي منهما على نتائج الصراع إلا من خلال تكامل عناصر عدة تتبادل التأثير فيما بينها قبل وأثناء المجابهة المسلحة.
وان العناصر المادية المباشرة لميزان القوى " أسلحة ومعدات وقوات " رغم أهميتها في تقرير مصير الصراع لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا ضمن قرار سياسي واستراتيجي سليم من جانب القيادة السياسية والإستراتيجية . ومن خلال توفر معنويات سليمة ليس فقط على مستوى الشعب أوالأمة بالمعنى الحقيقي للكلمة. وعلى أسس تنظيمية وقيادية ملائمة وناجحة على المستويين العسكري والمدني.