تعرفت عليها بطريقة ميلودرامية بامتياز. فقد التقينا في واحد من التجمعات التي تضم فئات اجتماعية وثقافية مختلفة من السيدات اللواتي يبالغن في التعبير عن عواطفهن وانفعالاتهن كما يبالغن بادعاء الثقافة والمعرفة. والتي تقام هنا في دبي شهريا، بذريعة مناقشة واحد من الكتب التي سبق وأن تم ترشيحها أو حازت على -إحدى الجوائز الأدبية، التي لا يعول عليها- برأيي لتقييم الكتاب.
وعلى الرغم من ملامح وجهها الطفولية، وقلبها الذي يشبه الماس، وعقلها الذي نحتته الكتب نحتا وشخصيتها القوية ظاهريا. إلا أنها جبانة.. حين ودعتها، رأيت في عينيها صراعا محموما وخوفا إلى أقصى حد. لم تكن ترغب فقط أن تنجز مهمتها سريعا هناك، بل أكثر من ذلك، كانت تتمنى أن تصحو من ذلك الكابوس الجاثم على صدرها.
- أنت شاحبة.
- نعم، لست على ما يرام، بل لست بخير على الإطلاق.
- أف! كلها أربعة أيام. هنيئا لك بعمّان، ليتني كنت مكانك.
- هنيئا لي على فوضى المعاملات الحكومية؟ ذكرياتي فيها سيئة.. أنا بخاف من عمان! كل ما أحبها بترجع تخوفني!
وكانت قد قرأت عن ما حدث مع النائب في البرلمان والتي تم إيقافها قبل أيام بعدما كان صوتها يلعلع تحت القبة وخارج حدودها. وما تعرضت له طبيبة من اعتداء في أحد المستشفيات.
أردت أن أخفف من شدة قلقها، "في قلب أي كائن، يسري، لا ريب، حب فطري للمكان الذي ترعرع فيه". وأسهبتُ فقلت كلاما كثيرا لا مغزى له ولا فائدة منه. بيد أنها، وعند جملة "أقلك، لازم تحبيها متل ما هي.. على عِلّاتها"، انتفضَت، وشعرتُ بقلبها وقد تسارعت دقاته. وكأن مشاعرها المنسية استفاقت من غيبوبة طويلة. ولم يعد بإمكانها حبس دموعها، فانطلقت غزيرة وحارة.
- أربعة أيام بلياليها ستمضي، وسوف تنجزين مهمتك خلالها. قد تمضي هذه الأيام بطيئة، وتتمطى الليالي كما يتمطى كلب (ابن شوارع) طلبا للطعام أمام عتبة منزل اعتقد آثما أن صاحبه (ابن ناس)! لكن لا عليك، لو كنت مكانك، وأنت التي تمتلكين ناصية اللغة، للملمت أفكاري هناك كيفما اتفق ووضعتها في نصّ بهي.
- أي بهاء ذاك، الله يهديكِ!
- لا أقصد نصا يروي ما كان أو ما سيكون، فذلك نص بائس بلا شك!! دعك من البؤس والحال المائل والكتابة عن موائد الإفطار التي تقام تحت رعاية أصحاب المناصب ورؤوس الأموال وأقدامها، أو عباءات النساء الرمضانية والتي أصبحت واحدة من طقوس رمضان المريبة. ودعك من الكتابة عن حادثة اعتقال النائب وإبداء التعاطف وتقديم النصيحة لها، فهي مدركة تماما متى ستقعد وأين ستقف. ولا عن سِيَر الشطار والعيارين، ولا عن قمع الحريات ونهب الأمان، ولا عن الإصلاح السياسي والاقتصادي ولا عن الخرافة الدينية أو صفقة القرن، ولا عن ويلات الحروب ولا عن المهجرين واللاجئين ولا عن أولاد الشوارع والبطالة والجهل ولا عن الدراما العربية ولا الأجنبية حتى. ودعك أيضا من الكتابة عن نون النسوة وقهر الرجال وأعمدة العلاقات الصدئة والقلوب التي شاخت قبل الأوان. الكتابة عن كل ما سبق لن تعيد الأمور إلى نصابها ولا هي كفيلة باسترجاع المشاعر المسروقة.
- طيب شو؟
- لو كنت مكانك؛ لجلست إلى طاولة صغيرة في مقهى مُهمَل في جبل اللويبدة بعيدا عن الضجيج وأبواق السيارات .. هناك، سأضع ساقا على ساق كأني وحدي ولا أحد سواي في عمّان. وسوف أطلب فنجان قهوة، ولن أرضى به إلا أبيض اللون. أبيض فقط. وسأستمع إلى أغنية أم كلثوم "على بلد المحبوب ودينى زاد وجدى والبعد كاوينى... ياحبيبى ده انا قلبى معاك طول ليلي سهران وياك.. تتمنى عينى رؤياك أشــكي لك وأنت تواسينى". وسأكتب عن توتر مخبوء في علاقة حب خالدة. وعن لحظة يتقدم فيها الشوق من مكان قصي في القلب على كل الأشياء. وعن ذكريات صاغت ليالي عشاق في شوارع تردد في صداها صوت محمد عبده وهو يصدح (الأماكن كلها مشتاقة لك). وعن مقعد للقاء وآخر لوداع. وسوف أكتب عن الغزل، غزل الحجر للسنبلة، وغزل الشمس لجبين غجرية، وغزل الندى للياسمين، وغزل المطر للمدينة. وعن تراتيل فيروز وبلاغة الجمال، سأكتب.
لو كنت مكانك لكتبت كل ذلك بل أكثر، إذ لا يليق بقلوب البشر الإفراط في اليأس يا صديقتي. ولأنه ليس من العدل الإفراط في التفاؤل أيضا سوف أقترح عليك أن تنهي النص باقتباس من رواية للروائي الأردني هاشم غرايبة "أعيش في عالم دنيء، ولكني حيّ ولا أخاف"!