مشكلة الفقر في بلادنا تحتاج الى ما هو ابعد واعمق من هذه الفزعة الرمضانية،ومن هذه الحلول المؤقتة التي تؤمن للفقراء بعض ما يحتاجونه في شهر واحد في السنة،وتسعد اطفالهم لايام قليلة ليعودوا مرة ثانية الى حافة الحاجة،وضغوطات الحياة التي لا ترحم،ورحم الشقاء الذي خرجوا منه..
المطلوب-بالطبع- حلول تتجاوز المعونات الطارئة، والايادي العليا التي تظل مغلولة ولا تنبسط الا في رمضان، واذا كان لدينا بعض المؤسسات التي تجتهد في هذا الاطار، وتحاول ان تسد جانبا من المشكلة، فان مسح خرائط الفقر في بلادنا يجعلنا ندب الصوت بأعلى ما يكون للتفكير مجددا بتشكيل هيئة وطنية موحدة- سمها بيت مال الفقراء ان شئت - تتولى مسؤولية الاشراف على هذه الفئة، وتشجيعها للخروج من دائرة العوز والحاجة،بالاعتماد على نفسها من خلال مشاريع عمل وانتاج، ومن خلال صك اجراءات حاسمة لتوزيع المكتسبات بعدالة، فلا شيء يمنع من تخصيص نسبة من الموازنة لهذه الغاية، ولا شيء يمنع من الزام الاثرياء بتخصيص جزء من ثرواتهم وارباحهم لاعانة اخوانهم الفقراء(فرض ضريبة للفقراء مثلا )، ولا شيء يمنع -ايضا-من اشهار اعداد هؤلاء وتكليف المسؤولين على صعيد كل بلدية او محافظة او حي، بمتابعة شؤونهم وحل مشكلاتهم بعيدا عن المعونات الطارئة، والمساعدات التي توزع بشكل فيه بعض المهانة والاذلال، وكل ذلك ممكن ما دمنا نتحدث عن بلد عدد سكانه لا يتجاوز عشرة ملايين، وثروات نسبة كبيرة من ابنائه تتجاوز المليارات، وما ينفق على بعض المشروعات الترفيهية وغير الضرورية يصل احيانا الى عشرات الملايين..
في تاريخنا الاسلامي نماذج كثيرة تذكرنا ببعض الحلول،ابتداء من المؤاخاة وانتهاء باعتبار من يموت بسبب الجوع شهيدا وتحميل الموسرين من اهل منطقته اثمه والزامهم بدفع ديته..ومن يقرأ تجربة الوقف في تراثنا يجد - ايضا - كيف اصبح المجتمع يبحث عن الفقير فلا يجده،وعن الخدمات كلها فيراها ممولة من الناس،ونكاد نجزم ان هذه المفاهيم والمراسيم ما تزال حية في مجتمعنا،ولكنها بحاجة الى اكتشاف وتشجيع،ونحن نأسف بالطبع للحصار الذي فرض على الواقفين،والاجراءات التي استهدفت الجمعيات الخيرية،والملاحقات التي لم تتوقف لمعاقبة المتسولين دون النظر لحاجتهم او توفير الحلول لمشكلتهم.
نتمنى ان نجد في هذا الشهر الفضيل من ينزل الى ‘’الناس’’ ليمسح دمعة فقرهم،ومن يفكر بعيدا عن منطق الفزعات لاخراج هؤلاء البائسين من بئر الحاجة وقلة الحيلة وضعف الامكانيات..اما كيف؟ فاحسب ان الطرق كلها مفتوحة(دعك من مقولات قلة الامكانيات وشح الموارد)،ابتداء من الحض على العمل وتوفيره،وتشجيع المحسنين والواقفين وتحويل عملهم الفردي الى مساهمات مؤسسية، وانتهاء بأحياء فريضة الزكاة وتخصيص جزء من موازنة الدولة لهذه الفئة المسكينة،..ويا ليت ان كل مواطن قادر في بلدنا يتكفل فقيرا واحدا،لكي لا يشعر احدنا بالمرارة والحزن وهو يرى أمًا تحتضن اطفالها الجائعين،ولا تجد سوى دمعة ساخنة تذرفها باستحياء لئلا تمد يدها للسؤال..وما اصعب السؤال؟
الدستور