لم تكن مجرد صحيفة، أو جريدة ناطقة بلسان حزب سياسي، بل كانت منبراً لكسر الحصار، رؤية لتبديد التعتيم، موقفا لمواجهة إنسداد الأفق، إنها صحيفة الاتحاد الحيفاوية الفلسطينية التي صدر أول عدد لها يوم 14 أيار 1944، ولازالت صامدة بالصدور والموقف والمواجهة طوال عشرات السنين عابرة لحدود الانفصال والعزلة والقطيعة بين المشروعين المتصادمين : المشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني في مواجهة المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، وبين أدواتهما.
رصينة وحادة في نفس الوقت، تقدمية تعددية وهي تواجه قوى المجتمع المتوتر وعنوانه القلق والخوف من الأخر ورفضه، ومع ذلك واصلت انحيازها منفردة في أجواء القتل والعنف والتهجير وحددت سياستها المنفردة غير المألوفة في أوقات النكبة وتداعياتها، وعبرت عن نفسها بنهج غير مألوف بعد النكبة، إذ تمسكت بهوية ما تبقى من شعبها في مناطق 48 على أنهم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني وأنهم أقلية مضطهدة في ظل حكم عسكري متسلط متفوق يتجلى بالانتصار على شعب مكلوم لم يجد روافع متينة يستند عليها، أو نصائح جديرة بالاستماع، وتحاشي أثار المؤامرة المحيطة به نسجتها بريطانيا مع الحركة الصهيونية وأطراف أخرى وحصيلتها تشريد نصف الشعب الفلسطيني عن وطنه، ونصفه الأخر تمزق بين كيانات متضاربة.
تمسكت الاتحاد كمنبر ورؤية وموقف وأداة، معبرة عن معاناة شعب وتطلعاته في ظل كلمة سادت وهي « عرب إسرائيل «، رفضتها وتمسكت أن الأقلية المتبقية هم من الفلسطينيين، وانتصر منطقها وتعبيرها وانهزم منطق سلطة التمييز العنصري وأدواته الإعلامية أو مخاتيرهم واندحرت كلمة « عرب إسرائيل «، وكان للاتحاد الفضل الأول إلى جانب شعراء المقاومة التي كانت منبرهم : توفيق زياد، محمود درويش، سميح القاسم، وقادة الفكر السياسي : توفيق طوبي وجورج طوبي وإميل توما وإميل حبيبي وغيرهم، الذين جمعتهم حركة سياسية كانت عصبة التحرر الوطني، مروراً بالحزب الشيوعي، وليس انتهاء بالجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة.
كان انحياز الاتحاد لمفهوم فلسطينية شعبها مميز وفريد وقوي، وشكل انحيازها الثاني بضرورة كسب إنحيازات إسرائيلية لعدالة القضية الفلسطينية وإشراكهم في النضال الموحد ضد الصهيونية والعنصرية والحكم العسكري وحق الفلسطينيين في المساواة واستعادة الحقوق المنهوبة ميزتها الثانية في ظل العزلة والعداء لسياسة الأخر وبرنامجه وأساليبه، وعداء الأخر لكل ما هو عربي وفلسطيني وطني وقومي وتقدمي وديمقراطي.
واصلت الاتحاد مسيرتها كجزء من مسيرة شعب بأكمله بل معبرة عنه، وأداة من أدواته الكفاحية، رغم تغيير الظروف والمعطيات، ولكن بقيت بوصلتها فلسطين وأوجاع شعبها وألامه، وتطلعاته وأحلامه، ولهذا لم تكن مجرد جريدة، بل أداة لقضية شعب، كانت ولا زالت.
اتحاد اليوم بعد 75 سنة عمل وكفاح تستحق الاحتفال بما يليق بها، واستذكار من عملوا وضحوا بأوقاتهم وابداعاتهم كي تبقى شمعة موقدة في جوف الوحش المتفوق الذي تغيظه الكلمات وما تحمل من معان ودلائل وانحيازات ومواقف سجلها التاريخ وأورثتها قيمها لشباب اليوم، إنهم يستندون على تراث وقيم صنعها ذوات تحلوا بالنكران لمصلحة شعبهم الذي سينتصر مهما غدر الزمان وقسى بمعطيات غير متكافئة.
نضال الفلسطينيين وثورتهم، رغم التضحيات لم تحقق لهم حقهم في العودة والاستقلال والمساواة، ليس بفعل الضعف والتمزق والانقسام فقط، بل بسبب عدم قدرتهم على اختراق المجتمع الإسرائيلي وكسب انحيازات إسرائيلية لعدالة القضية الفلسطينية وشرعية نضال شعبها.
الاتحاد كانت ولا تزال مؤمنة بهذا النضال المشترك ومعبرة عنه، ولهذا ستبقى مرفوعة الرأس حتى ينال شعب فلسطين بأضلاعه الثلاثة : من فلسطينيي مناطق 48، وفلسطينيي مناطق 67، وفلسطينيي اللجوء والشتات، كامل حقوقهم بالمساواة والحرية والاستقلال والعودة، واستعادة بيوتهم في اللد والرملة ويافا وحيفا وعكا وصفد وبئر السبع.
للاتحاد التي سبق بسببها وأن تعرضت للاعتقال؛ لأنني كنت أيام الاحكام العرفية أحصل عليها وأصور مقالاتها وموضوعاتها وأقوم بتوزيعها ونشرها، فلها عليّ فضل الوعي، ولها عليّ واجب، ولها مني وللعاملين على تحريرها وقيادتها المحبة والتقدير على طريق الانتصار.
الدستور