العرب من الخراب إلى الإصلاح
د. فيصل الغويين
16-05-2019 01:45 PM
الدول القوية في أدبيات علم الاجتماع السياسي هي التي تلتحم في خياراتها ومشروعاتها مع مجتمعاتها وشعوبها، حتى ولو لم تمتلك موارد طبيعية كبيرة، وهي التي تكون مؤسسة للإجماع الوطني وحامية له، وهي التي تنبثق خياراتها وإرادتها السياسية من إرادة الشعب وخياراته العليا.
ولا شك أنّ الدول القمعية بتداعياتها السياسية والاجتماعية، هي من الأسباب الرئيسة في إخفاق المجتمعات العربية في مشروعات نهضتها وتقدمها، لأنها تحولت إلى وعاء كبير لاستهلاك مقدرات الأمة وامكاناتها في قضايا ومشاريع خادعة ومضللة.
إنّ تجديد الحياة السياسية وإدخال دماء وعناصر جديدة تبث الحياة والحيوية، وتزيل العديد من عناصر الجمود، هو أحد الوسائل الأساسية التي تستخدمها العديد من الدول لتجديد ذاتها، لأنّ الحياة السياسية كالكائن الحي إذا لم تجدد وتتطور فإنّ بقائها لفترة طويلة على ذات النسق يجمّد هذه الحياة، لتتسع من جرّاء ذلك عملية الجمود وثقوب الفساد والانحلال الداخلي والتآكل المستمر.
فالخيارات السياسية التي لا تتجدد ولا تتطور على المستويين الفكري والبشري، ستتحول مع الزمن إلى منبع لتأبيد السائد والراكد، ومحاربة كل نزعات التطوير والإصلاح. كما أنّ تكلس الحياة السياسية والاجتماعية يفضي على المستوى العملي إلى تشكّل أصوات وحالات شعبية ترفض بشكل جذري هذه الحالات، وتعمل لحشد ذاتها للانقلاب الكلي على هذه العملية، أو تغيير بعض قواعد اللعبة السياسية. بمعنى أنّ ترهل الحياة السياسية وتكلسها، وانسداد آفاق الممارسة السياسية السلمية القانونية والقادرة على امتصاص مساحات اجتماعية واسعة، كل هذا يهيئ المناخ الاجتماعي والثقافي لولادة خيارات العنف والإرهاب.
في حين أنّ الحياة السياسية والعامة، المحكومة بشكل دائم بقيم والديمقراطية والتداول، هي حياة مستقطبة للكفاءات والدماء الجديدة، ولديها القدرة على إقناع مساحات اجتماعية أساسية بأنها هي سبيل التجديد والتطوير.
وحينما تتسع دائرة اليأس والإحباط من الحياة العامة القائمة، ستتبلور خيارات من القاع الاجتماعي، بعضها سيتبنى خيار العنف، بوصفه الخيار القادر على فتح تغرة، تنقل بعض فئات المجتمع من القاع الاجتماعي إلى المقدمة الاجتماعية. لذلك فإنّ التجديد الدائم للحياة السياسية والعامة، وتعزيز قيم الديمقراطية والتداول، هو من أهم الوسائل القادرة على وأد مشروعات العنف، بوصفه خيار الصعود الاجتماعي والسياسي، لأنه يسقط مبررات اللجوء إلى العنف. وهذا ما تعلمنا إياه التجارب السياسية والاجتماعية في كل الدول والمجتمعات.
فجماعات الإرهاب ليست نبتة صحراوية وإنما هي نتاج خيارات ومشروعات وتتمدد باستمرار من أخطاء وخطايا هذه الخيارات والمشروعات، ولا يمكن القضاء على هذه الجماعات إلا بسحب البساط الاجتماعي منها.، ولا يمكن تقليص مساحة تأثيرها وتأييدها الاجتماعي إلا بتجديد الحياة العامة، وفتح الطريق أمام قوى المجتمع المختلفة للتعبير عن ذاتها ورؤيتها لراهن مجتمعاتهم ومستقبله.
وفي هذا السياق تتحمل كل الدول العربية مسؤولية العمل على بناء مشروع وطني متكامل للاندماج الوطني، بحيث لا تتحول مجتمعاتنا العربية إلى مجتمعات منقسمة أفقياً وعمودياً تحت يافطة الانتماءات التاريخية والتقليدية. وذلك بالاستناد على وسائل التنشئة والتثقيف والإعلام والعليم، والتعامل مع الجميع بمساواة على قاعدة المواطنة الجامعة.
إنّ توقف عجلة الإصلاح والتطوير هو الذي قاد إلى ما وصلت إليه الأوضاع في العديد من الدول العربية. فالدول التي تتوقف عن تطوير نفسها وإصلاح أوضاعها ستصل حتماً إلى طريق مسدود، وإلى لحظة الانفجار السياسي والاجتماعي التي حدثت في العديد من الدول خلال حقبة ما سمي ب "الربيع العربي".
إنً المشكلة الأساسية التي تواجه الوطن العربي، هي تجمد حركة الإصلاح وغياب الإرادة السياسية والاجتماعية التي تدفع نحو التغيير والتطوير، مما يؤدي إلى تضخم المشاكل وعدم الإنصات إلى الحاجات الأساسية للناس، فتتباعد الهموم والاهتمامات بين الناس والنخب السياسية، وتزداد الفجوات، وتتراكم الإخفاقات.
إنّ عملية التأجيل أو التسويف، أو استخدام القهر والقوة والعنف لمنع استحقاقات الإصلاح والتطوير، لا تنهي من نفوس الناس تعلقهم بالإصلاح، وتجاوز كوابح التقدم والنهضة، فالإصلاح بكل مضامينه وخطواته الضرورية أضحى مطلباً أساسياً، وهو حاجة للحكومات العربية قبل أن يكون ضرورة للشعوب العربية.
فالدول التي تحجم عن ممارسة الإصلاح والتطوير، فإنها تؤسس عوامل إخفاقها وسقوطها؛ لأنّ النخبة التي تسقط من نفوس وعقول شعبها، ستسقط في الواقع الخارجي سواء قصر الزمن أو طال. ولا بد أن ندرك – ومن خلال التجارب العديدة التي مرت على دولنا ومجتمعاتنا- أنّ الثمن الذي تقدمه الحكومات والنخب السياسية للإصلاح والتطوير، أقل بكثير من الثمن الذي يقدم من جرّاء توقف عجلة الإصلاح ومنع المجتمعات من التعبير عن آمالها أو نيل حقوقها المختلفة.
فالحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص هي التي تعزز الأمن والاستقرار في كل الدول والمجتمعات، وكل القيم والمبادئ المضادة لها هي التي تفكك الدول وتضعف من قوتها، وتعجل من انهيارها، وتنمية الغرائز والعصبيات لا يحمي أحداً، وإنما يوفر امكانية الانهيار الشامل. وحيوية الإصلاح وفعاليته في كل الدول والتجارب، حينما يأتي في وقته، أما إذا تأخر لسبب ذاتي أو موضوعي أو كليهما معاً فإنّ القيام به لن يقنع المجتمع، ولن يتمكن من إيقاف عجلة الانحدار والتداعي. فحينما تأخر الإصلاح في الاتحاد السوفييتي السابق كانت النتيجة في خطوات غورباتشوف هي المزيد من الانحدار والتلاشي، وهو ذاته ما جرى في الدول العربية التي توقفت عن الإصلاح أو تأخرت عنه، فكانت النتيجة هي السقوط.
فالإصلاح ليس مناورة لكسب الوقت أو تهدئة الخواطر، بل هو ضرورة قصوى لدولنا ومجتمعاتنا، فيه نزداد قوة ومنعة، وبه نطرد نقاط ضعفنا، وننهي ترهلنا ونحمي استقرارنا وأمننا السياسي والاجتماعي، وهو جسر العبور إلى المستقبل الآتي، وبدونه لا مستقبل حقيقي لشعوبنا وأمتنا.
فالعرب اليوم هم أحوج ما يكونون إلى مشروع الإصلاح، الذي يوقف عملية الانحدار والتشظي ويعزز من فرص الحرية والوحدة معاً، وينهي المخاطر العديدة التي تحاصر العرب من كل الاتجاهات.