عندما ارتطم بائع الطائرات البلاستيكية بسائق الدراجة الهوائية
د. موسى برهومة
28-09-2009 06:34 AM
لا يستطيع أي مراقب أن يعاين مظاهر العنف، التي لا تني تتفجر في غير مكانٍ من الأردن، بمنأى عن جذورها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
ورغم أن الكثير من الزملاء الكتّاب والصحافيين تحدثوا عن المخاطر التي تختبئ وراء هذه الأشكال والحلول العنيفة في التعاطي مع قضايا العيش ومنغصاته، إلاّ أن تحرك الحكومة والجهات المعنية مايزال بطيئا، ومقتصرا على الجانب الوقائي المباشر والخجول من دون دراسة الأسباب الكامنة وراء هذا العنف المتصاعد، وتفحص جذوره.
ورُحت أفكر في هذه المقالة بينما كنت أسير، مساء أول من أمس، في أحد شوارع مدينة شنغهاي الصينية التي أزورها برفقة عدد من الصحافيين في العالم للمشاركة في احتفالات الصين بالذكرى الستين لتأسيسها.
وفي أثناء تجوالي في الشارع، اقتعدتُ أتفرّس في الوجوه المتشابهة والمعمار الذي يحاكي الغيوم، وفجأة ارتفع صوت في الجوار لفت انتباهي، فإذا ببائع طائراتٍ بلاستيكية صغيرة يقذف بلعبته في الفضاء ويركض لتلقفها من دون أن يرى سائق دراجة هوائية كان يعبر الشارع فيرتطم به، فيرتفع صراخ الاثنين بما يشي أن كل واحدٍ منهما يلقي باللائمة على الآخر.
هذا المشهد، الذي لم يلفت انتباهي وحسب، وإنما فضول المارة الآخرين أيضا لم يستمر أكثر من دقيقة من التلاوم والتصارخ لم تسفر عن أي احتكاكٍ، أو استعمال اليد، أو أي مظهر ٍعنفي، ليتفرق الطرفان، ويعود الهدوء التام إلى الشارع الذي وقع خلف فندق السنترال حيث نقيم.
ورحتُ أسائل نفسي لو أن هذا الحدث جرى في الأردن، هل كان يمكن أن يُحل بهذه الطريقة الحضارية؟
وقادتني أسئلتي إلى أبعد من ذلك، أعني إلى الجذور الثقافية التي جعلت هذين المواطنيْن يكتفيان باللوم والعتاب الرفاقي أو الأخوي.
الثقافة الصينية الممتدة منذ عهد كونفوشيوس حتى الآن فيها قدرٌ هائلٌ من الروحانية والتسامح، وتنطوي على قسطٍ كبير من الانضباطية، واحترام القانون، وعدم تجاوز حدود الآخرين، وانتهاك التقاليد والأعراف.
وثمة ما هو أبعد من ذلك: احترام الدولة والحفاظ على هيبتها، وربما يكون هذا الاحترام مختلطاً في الخشية من الخضوع للمساءلة القانونية الشديدة، حيث الشدّة، ها هنا، آتيةٌ من الهيبة العامة للدولة التي على القانون أن يصونها من الخدش والتطاول.
ومن كانوا يعيبون على الصين أنها أعدمت وزيراً فاسداً، فليأتوا إلى شنغهاي ليروا المعجزة الحقيقية للإنسان حينما يروّض الأرض والسماء، ويقهر المستحيل، ويصنع حضارة لا يمكنها أن تستقيم أبداً مع وزراء أو مسؤولين فاسدين، أو مرتشين، أو مع مواطنين لا يراعون عهد الدولة ورمزيتها.
الدولة في الصين شرّعت القوانين وجعلتها نافدةً على الجميع من غيرما استثناء، أو محاباة، أو وجل. لذلك صار للقانون سطوة تغلغلت مع الزمن في البناء النفسي، حتى لا أقول الجينيّ للناس، وأضحت تضبط نطاق حركتهم وأفعالهم، وتتحكم لا شعوريا بها.
فأين نحن من هذا النموذج المطبق، على هذا النحو من الشدة واللين، في العديد من دول العالم المتحضرة، ولماذا نصرّ على دفن رؤوسنا في الرمال هروباً من عدم الجهر باستحقاق إعادة الهيبة للدولة التي صار بمقدور أي شخص أن يعتدي عليها ويحل نفسه، أو عشيرته، أو فريقه الرياضي، أو سطوته الاجتماعية ومركزه الاقتصادي مكانها؟
العنف الذي يتفجر أحيانا، بل في أكثر الأحيان، لأتفه الأسباب، له جذور ثقافية، لا تبدأ من عدم احترام الوقت، وإلقاء المحارم الورقية من نافذة السيارة، ولا تنتهي عند ترويج أغذية أو أدوية فاسدة، أو الغش بمواصفات البناء، أو تخريج طلبةٍ من الجامعات لا يعرفون اسم أديب أردني واحد.
وإذا كان "حسني البورزان" أقام، على نحو هزلي، علاقة وشيجة بين ما يحدث في إيطاليا وما يحدث في البرازيل، فثمة أيضا علاقة عميقة الأثر بين ما يحدث في عنجرة وجرش والرمثا والكرك والسلط وعمان، وبين التحولات الاجتماعية المتسارعة والظروف الاقتصادية الخانقة التي جعلت الناس لا يخافون على المستقبل بمقدار خوفهم من المستقبل.
إذن، علينا أن نفتش عن جذور العنف ودوافعه من دون أن نغفلَ للحظة عن وعي أكلاف عدم الدفع باتجاه تشكل طبقة وسطى حقيقية تمثل ضمانةً وجداراً مطاطياً ضخماً يقي المجتمع من الارتطام مع قواه وأفراده، ويحافظ على التماسك والسلام الأهلييْن، ويشيع تقاليد التسامح والشفافية، وينعش المجتمع المدني ويقوي مؤسساته وأحزابه ونقاباته.
ولئن كنا جنينا على الماضي، فعلينا ألاّ نجني على المستقبل، وألاّ نورّث أبناءنا بنادق وسكاكين كي يذبحوا أنفسهم ومجتمعهم بها، وعلينا أيضاً أن نعيَ جيدا ما يحدث في إيطاليا والبرازيل، وكذلك ما حدث ويحدث في الصين!
m.barhoma@alghad.jo
عن الغد