البطن بستان!!، هكذا نفلسف التباين والاختلاف حتى بين الأخوة المنحدرين من رحم واحدة، فتجد في الأسرة الطويل والقصير، والأسمر والأشقر، وهناك العاقل والجاهل، وانسجاما مع المثل الشعبي الذي كان رائجاً إبان شريعة الغاب: (قوم بلا جهال ضاعت حقوقها)، فإن أمتن الأسر وأقوى العشائر تلك التي يكون فيها جهّال أكثر، جهال يكشرون عن عضلاتهم وهراواتهم وشباريهم (خناجرهم) في كل الملمات والمشاجرات.
مع تفاقم العنف العشائري في مجتمعنا في الفترة الأخيرة، صرت أشعر بأن ذلك المثل المتخلف، الذي يمجد حكم الجهل وسطوتها، عاد ليسيطر على ذهنيتنا وشارعنا ومجريات أمورنا، بل وإذا حدقنا بشكل جيد في ملابسات وتفاصيل أغلب تلك المشاجرات والنزاعات، نجد أن نجومها اللامعين وأبطالها المخضرمين هم "الجهّال" ، فهم اصبحوا سادة للمواقف، المحركين لكامل مشاهده.
هناك شق ثان للمثل المذكور أعلاه، وهو (وقوم بلا عقال؛ راحوا قطايع)، أي أن البلد التي لا يوجد فيها عقول كبيرة مدبرة، فهم لا محال سيتشتتون قطايع متفرقين، ولهذا يحثنا مثل آخر على أن يكون لدينا كبير، حتى لو اضطررنا لشرائه(الماله كبير يشتري له كبير)، وهي دعوة أحس بأنها صادقة، تنبع من تجربة واعية، أن يكون هناك مرجعية عاقلة تفرض هيبتها.
ارجع بعض دارسي علم الاجتماع في تحقيق صحفي اطلعت عليه في جريدة زميلة قبل أيام، سبب تفاقم هذا العنف العشائري وتفشيه بصورة تنذر بالعودة إلى ما قبل الدولة، ارجعوا السبب إلى غياب النخب ذات العقل، في العشيرة والبلد، وإلى ذوبان سلطتها، التي كانت تضفي على المشهد كثيراً من الطمأنينة والهدوء، فكان يكفي مثلاً أن يقف كبير العائلة، ويقوم كلمته؛ فتمشي على الكبير قبل الصغير، وكان يكفي أن يقول للذين يهمون بحرق بيوت الناس، وفتل العضلات بأن يكفوا فيكفوا.
واقعنا اصبح واضحاً الآن، فنحن لا نفتقد إلى هذه النخب الجليلة في حياتنا فقط( ليس لدينا كبار بالمعنى الحقيقي)، بل بزغ لدينا كثير من الرؤوس المتصارعة، التي يعتقد كل منها أنها الأهم، حتى لو كانت لا تعدل رأس بصل، وبما أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، الفراغ الناجم عن غياب تلك النخب، فإن الجهال ومن واكبهم يسيطرون على المشهد ويتسيدونه، بحجة المحافظة على الحقوق!.
إذاً، هي دعوة إلى شراء الكبير، إذا عجزنا عن صناعته أو إيجاده أو إعادة دوره المفقود. فويل لقوم طمسوا كبارهم وغيبوهم، فهي الطريق القصيرة المؤدية إلى (القطايع) حيث يغيب دور الدولة!.
ramzi972@hotmail.com