احيانًا يكون الصيام السياسي فضيلة خاصة في بلد عانى - وما يزال - من فوضى السجالات والكلام المجاني والوعود العرقوبية، واحيانا يكون نوعا من الهروب الى الامام، او تعبيرا عن حالة «الفقر» التي تبرز اكثر ما تبرز في رمضان، واحيانا يكون اشهارا لمخاضات لم تحد ولادتها بعد، او لانسدادات لم تجد من القنوات ما يسمح لها بالانسياب.
من مقاصد الصيام - حتى لو كان سياسيا بامتياز - ان يفضي الى التقوى، وهي سمة يحتاجها السياسي قبل غيره، التقوى في التعامل مع الوظيفة، ومع المال العام، ومع خدمة الناس والتواصل معهم، والتقوى في الالتزام بالقانون وفي الامتناع عن النميمية السياسية واللغط، ومن مقاصد الصيام - حتى لو كان سياسيا ايضا - تطهير الذات من شهواتها، ومصالحتها مع محيطها، وتحريرها من اخطائها وتدريبها على الصبر والاخلاص، واعادتها الى فطرتها الاولى: فطرة ما قبل الوصول الى المناصب.
في موسم الصيام السياسي يفترض ان تتقدم المراجعات على ما سواها من اولويات: مراجعة الاخطاء التي تراكمت، والمساءلات التي تعطلت، والاصلاحات التي تأخرت، والانسدادات التي قادت الى الفشل، مراجعة المقررات التي افرزت ما نعانيه من خلل هنا وهناك، ومراجعة التصريحات التي اتسمت بالفوضى والارتباك، ومراجعة السياسات التي خرجت عن سكة المألوف، والاحباطات التي كادت ان تطبق على لوزتي الناس، والازمات الاجتماعية التي انتشرت عدواها «كالاميبا» في جسد المجتمع.
مرحبا بالصيام السياسي حين يكون في اطار المقاصد الكبرى التي جاء من اجلها هذا الشهر الفضيل: التقوى والطهارة والمراجعة والتقرب الى الله تعالى والى عبادة ايضا، مرحبا به حين يكون ايذانا بمواسم جديدة من العمل والانتاج والعودة الى التعاليم والقوانين والمراسيم، وحين يكون مناسبة لتفقد الفقراء واشاعة روح التعاون والتكافل والهداية الوطنية.
اما حين يتحول الى موسم للصمت او التعب او الاسترخاء او الانشغال بما يطرحه بازار المسلسلات «الرمضانية»، او الفرجة بانتظار ما تفضي اليه المخاضات المتعسرة، حينئذ يشعر الناس بالقلق من الجمود والفزع من الانتظار، والخوف من الفوضى، وحينئذ تتراكم الاسئلة المعلقة التي يعوزها حسم الاجابات، ويفقد الصيام معناه الحقيقي ويترك فراغات كثيرة لا تملؤها الا الاشاعات او الاستنتاجات المتسرعة والخاطئة.
لقد طال حقا نهار الصيام (حتى قبل قدوم شهر رمضان) على بعض اخواننا المسؤولين، وحان وقت الافطار، حتى لو كان على ماء وشق تمرة، فهل بوسعنا ان نطالب باعادة الصوم الى مهاده الاول، ومقاصده الكبرى، وان ننزع عنه جلباب السياسة لتمارس دورها ان كانت تتذرع بثقل وطأته عليها. او ان نحرر الذين فهموا الصيام «بعيدا عن حقيقته» من اوهام الامتناع عن الكلام والعمل ليباشروا اعمالهم ويتخلصوا من كسلهم ويفطروا على ما قسم الله... او على ما كتب لهم من «نصيب».
الدستور