تحلت رسالة الملك عبدالله الثاني لمدير المخابرات العامة الجديد اللواء أحمد حسني بدرجة غير مسبوقة من الشفافية، تعني من بين عدة أمور مهمة، ثقة عالية بالمؤسسة الأمنية الأبرز في الدولة الأردنية، وشجاعة في تشخيص الاختلالات حتى وإن كانت فردية، ورهان مضمون على قدرة المدير الجديد في التعاطي مع هذه التحديات من جهة، واستكمال عملية التطوير والتحديث التي خطها الجهاز منذ سنوات بتوجيهات مباشرة من الملك.
كان بالإمكان التعامل مع الأخطاء الفردية التي وقعت بإجراءات داخلية غير معلنة، لكن جلالة الملك اختار الإشارة لها علنا، في رسالة تحدي لمن يتوهم بأن الدولة مرتبكة وخائفة ولا تقوى على مواجهة مشكلاتها، وملخص الرسالة أن ثقة الملك بجهاز المخابرات وثقة الأردنيين في هذه المؤسسة أكبر من أن تهتز جراء ممارسات فردية أو حسابات شخصية.
لقد أظهرت استطلاعات الرأي على الدوام تصدر المؤسستين العسكرية والأمنية قائمة المؤسسات الأكثر ثقة عند الأردنيين، في تعبير جلي عن قناعة عميقة بأن الجيش والمخابرات هما صمام الأمان في بلدنا بعد مؤسسة العرش. هذا هو الثالوث الوطني المقدس عند الأردنيين، اختبروه على مدى عقود طويلة وكانوا دائما الرابحين.
وقد يتساءل مراقب من الداخل أو الخارج، ما قيمة هذه المخالفات مقارنة مع ما نشهده من فضائح وممارسات بشعة ترتكبها أجهزة أمنية في دول عربية شقيقة أو صديقة؟
السؤال مشروع، لأن باب المقارنة غير وارد أبدا، لكن رسالة الملك تكشف مدى حساسيته وغضبه من أي تجاوزات أو تعد ينطوي على انتهاك لسلطة القانون ومس بثوابت الدستور واستغلال للموقع لمصالح شخصية.
الأردن لم يكن يوما ولن يكون كحال دول نعرفها تعيش شعوبها تحت سلطة أمنية استبدادية تتغول فيها الأجهزة على حياة الناس وتتلاعب بالمؤسسات وتنتهك أصول الحكم والدستور بحجة حماية الزعيم.
لقد اختبرنا المؤسسة الأمنية في أخطر وأصعب المراحل وآخرها موجة الربيع العربي، وشهد العالم كله الطريقة التي أدارت فيها تلك المرحلة، والاستجابة المدروسة لتحديات الإصلاح ومقاربة الأمن والاستقرار بما يضمن المصالح العليا للدولة والمجتمع.
ربما تكون بعض الأخطاء المرتكبة في مؤسساتنا ناجمة عن سوء فهم وعدم إدراك لمتغيرات العصر الحديث والدور المتنامي لوسائل التواصل الاجتماعي وثورة المعلومات، وغياب الرؤية الاستراتيجية للتعامل مع هذه المتغيرات التي تركت أثرا بالغا على عمل الأجهزة الأمنية والمؤسسات المدنية. وفي هذا الصدد علينا أن نستعد لمرحلة أكثر تعقيدا في هذا الميدان تتمثل في دخول تقنيات الجيل الخامس حيز التطبيق. دول متقدمة في العالم بدأت نقاشا مستفيضا في دوائر الحكم حول كيفية مواجهة التدفق المحتمل للمعلومات بما يضمن الخصوصية العامة والشخصية.
أجهزة الأمن والمخابرات في قلب هذا النقاش لإدراكها حساسية الأمر وخطورته على الاستقرار الأهلي.
لقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في الحط من مكانة الطبقة السياسية والنخب بمجملها، والتي انجرفت في حملة البحث عن الشعبوية على حساب سمعة المؤسسات الوطنية، ودون أدنى اكتراث لمصالح البلاد العليا، وفي طريقها لتحقيق الشهرة لم تتوان عن تلطيخ سمعة المؤسسات والرموز الوطنية.
حان الوقت لوقفة مراجعة شاملة وعميقة، تضع حدا لموجات الكذب والافتراء التي تملأ الفضاء العام.
الغد