لأن الشعراء يهيمون في العادة خارج عوالمهم ، ولأنهم يحيون دائماً في تربة كواكبهم الخاصة النائية ، ولأن دماء عروقهم غير دماء أهل الأرض ، فقد طردهم الفيلسوف أفلاطون ، عندما صمم وخطط مدينته الفاضلة ، بحجة أن الشعر لا يمت لطينة الأرض بصلة ، ولهذا فهو لا يقدر أن يخصّب حياةً عليها،،.
لكن مهلاً ، ليس الشعراء وحدهم من يعيشون خارج هذا العالم ، ويحيون في ذواتهم ، فأفلاطون نفسه عندما يطرح مشروع المدينة الفاضلة ، كان هو الآخر يسبح ويعوم في عالم غير عالم الواقع ، أي في عالمه الخاص المتخيل هو ، وبالأحرى كلّّ منا يعيش خارج مجال جذب هذا العالم ، كلّّ منا يحيا في عالمه الخاص الذاتي ، يرى ما يريد: إننا كلّّ يحمل عالمه في رأسه،،،.
تروي قصة صينية قديمة ، أن رجلاً كان يحب أباه العجوز كثيراً ، لكن زوجته رفضت السماح له بالعيش معهما ، ولأن الزوج مغلوب على أمره ، فقد اضطر أن يُسكن أباه في كوخ بعيد عنه،،.
الرجل المقموع المضبوع يفكر كثيراً بأبيه المسكين ، ويتخيله دائماً أمامه ، وذات مرة نزل إلى المدينة ، ووقف أمام بائع لديه أشياء غريبة ، ولفته شيء زجاجي ، فهو عندما حمله بيده ، رأى فيه صورة أبيه،،.
سأل الرجل عن هذا الشيء ، فقال له التاجر: هذه مرآة. فقرر أن يشتريها بكل ما يملك.
عندما عاد الرجل إلى بيته خاف على والده ، فخبأ المرآة في صندوق ، بعيداً عن سطوة الزوجة ، وصار يتسلل إليها بين الحين والآخر ، من أجل أن يحظى بمشاهدة أبيه،،.
الزوجة الحذرة الغيور الغضوب ، شكت بالأمر ، فراقبت زوجها ، الذي ازدادت خلواته في السرداب ، حتى ضبطته متلبساً باكياً ينظر في المرآة ، ولما سألته عن هذا الشيء الذي يحوز على اهتمامه ، قال: إنه أبي. لكن المرأة التي أخذت منه المرآة فشاهدت بها امرأة أخرى: فصرخت بوجه زوجها الخائف: الآن عرفت ، إنك تخونني مع هذه المرأة التي في المرآة ، في كل مرة تخلو بها مع نفسك،،.
تشاجرا ، وقررا أن يحكّما أول من يظهر لهما ، وقد كانت لأجل الصدفة ، الراهبة الوقورة تمرُّ من باب البيت ، وقد رابها الصراخ ، فشرحا لها الأمر ، نظرت الراهبة في المرآة ، وقالت إنني لا أجد أباك هنا ، ولا أجد امرأة أبداً ، إنني أرى راهبة فقط،،.
لم يقنع الزوجان بحكم الراهبة ، وقررا أن يحكّما جارهما السمين ، رغم أنه دائماً مشغول ببطنه،،.
نظر الرجل في المرآة بشهية ، بعدما فهم المشكلة ، ثم تلمظ بشفتيه ، وسال لعابه ، قال: إنني لا أرى هنا عجوزاً ، أو امرأة ، أو راهبة ، إنني أرى خاروفاً مشوياً،،.
أيها الأصدقاء ، نحن أبداً لا نحيا في هذا العالم ، بل كلّّ منا يحيا في عالمه ، ورغم أننا ننظر في ذات المرآة ، لكن كلّّ منا يرى ما يريد،.
ramzi279@hotmaiml.com