في غمرة المشاكل التي نعيشها ليل نهار والقلق الذي ينتابنا نندفع بقوة وراء هواتفنا الرقمية الذكية، ولا أرى أنها ذكية! يمشي أحدنا في الشارع ولا ينظر أمامه وانما في شاشة هاتفه وكذلك اثناء قيادة السيارة، آخرون يقبعون في البيوت واماكن العمل غارقون في محيط العالم الافتراضي مطأطئين رؤوسهم في شاشات هواتفهم في مشهد يدعو للأسى.
ننام ونصحو على هواتفنا، هواتفنا .. أول ما نفكر فيه بها عند الاستيقاظ من النوم صباحاً، وآخر ما نودع قبل النوم، تختلس النظر إليها في أوقات الدوام بين الفينة والفينة، وقد نصطحبها معنا إلى أوقات خلوتنا الشخصية، نهلع ونرعب عند فقدان الهاتف وكأنه "فلذة كبدنا"، ولا يهدأ لنا بالٌ قبل العثور عليه.
تقول الباحثة البريطانية جرينفيلد في كتابها “تغيُّر العقل: كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا" تقول في مقدمة كتابها: لقد صرنا منفصلين عن العالم الطبيعي مع كل جماله وتعقيداته ومفاجآته المتواصلة. حتى المتعصب الرقمي لا يمكنه الهروب من حقيقة بسيطة وهي ان كل ساعة يمضيها امام الشاشة مهما كانت رائعة، أو حتى نافعة هي ساعة تنقضي من وقته الثمين دون الامساك بيد شخص ما يعشقه أو استنشاق نسيم البحر العليل أو منادمة صديق حميم أو الجلوس كتاب أو الحديث مع الأبناء والوالدين!! وكأن كلام الباحثة الانجليزية هو ردٌّ على تساؤلاتنا السخيفة والتي نرددها دوما " لماذا تغيرنا؟ لماذا تغيّر الناس؟ لم يعد الناس كما كانوا من قبل! لماذا لم يعد الناس يحبون بعضهم البعض؟ ويسامحون بعضهم البعض مثل أيام زمان؟ لماذا ازدادت حالات الطلاق وكثرت حالات النصب والاحتيال والخداع وخيانة الأمانة؟
الموضوع ببساطه اننا أسلمنا أنفسنا للتكنولوجيا، هذه التكنولوجيا التي لم نخترع بها شيئاً، ولأننا لم نخترع بها شيئاً قمنا فرحَّبنا بها وعشقناها لكن من دون ان نختار منها ما يُسعِدُنا وما نُسعِدُ به.
معظمنا لم يعد عنده القدرة على الحفظ والتذكر لأبسط المعلومات لأننا نستنفذ معظم طاقتنا في تبادل الرسائل القصيرة والاستمتاع بالترفيه مما يشتت انتباهنا بعيدا عن الانخراط العميق مع الناس والمعرفة وأصبحنا نفتقر الي ملكات التفكير العميق والاستغراق في المعرفة والبحث والتمتع بالمهارات الاجتماعية المباشرة.
الأطفال صاروا أقل نشاطا بصورة متزايدة من خلال التخلي عن اللعب التقليدي في الهواء الطلق والعمل والانشطة البدنية الأخرى وتحوّلوا الى اللعب الافتراضي الذي يحدث من خلال الجلوس في الاماكن المغلقة او اللعب بالتكنولوجيا أو ساحات اللعب عبر الانترنت.
العالم المتقدم مخترع هذه التكنولوجيا الرقمية مشغول بها وبآثارها أما نحن المستهلكين، أصحاب الكهف الرقمي، نحن راقدون تحت تراب هذا الهوس لتتآكل حياتنا من سوء استخدام هذه التكنولوجيا التي يمكن ان تصنع لنا جنة على الارض لو تعقلنا في استخداماتها وقد تُحوّلنا الى قطعان رقمية لا قيمة لها.