"بوذا، ترجُمُهُ الإشاعات هذه المرّة"
عبد الحافظ الحوارات
30-04-2019 01:00 PM
لَمْ أحظَ من سُباعيّة العطايا التي نَسَبها المُتنبّي لنفسِهِ في بيتِ شِعرِهِ الشهير، وأنا أُقيم هنا في مُغْتَرَبِي، إلّا بثلاثٍ، هي: البيداءُ والقرطاسُ والقلمُ.
والحقيقة أنّ الانغماس في البيداء له مغانم كثيرة، ليس أقلّها طمأنينة النفس وصفاء العقل وتجنّب الإشاعات، وقد استشعرتُ أهمّيتها حينما أُتيْحَتْ لي الفرصة للتنعُّم بربيع وطني الحبيب خلال إجازة قصيرة دامتْ أسبوعين فاتِنَين.
وكالعادة، لا يمكن للإشاعات أنْ تأخذ إجازة؛ لقد كان من المُلفتِ انتشار إحداها مُرفَقَة بصورة يدَّعِي مُطلِقوها أنّها للرَّب "بوذا" وهو يجلس بكامل وقارِهِ على هيئة منحوتة بُنِيَتْ على قارعة الطريق الرئيس في عاصمة الدولة التي أُقيمُ بها "أبو ظبي". لم أعرف حينها ماذا أقول لبعض من التقيتُ بهم ممّن تَبَنّوا ذاك الادّعاء سوى بيان وقوعهم في مغالطة توصيف بوذا بالربوبيّة، هذه المرتبة التي لم يتجرّأ على نسبها إليه حتى أخلص خُلَصَاء ذاك المُعَلّم.
بعد الإجازة عُدتُ إلى صفاء الصحاري هنا كي أستجلي الحقيقة، فَعَلِمتُ أنّ متحف "اللوفر" في أبو ظبي قد خَلَقَ فكرة إبداعيّة تهدف إلى نثر الثقافة على جوانب الطرقات خارج مبناه الفريد، تَمَثَّلتْ في قيامه ببناء نماذج لبعض محتوياته الثمينة ونصبها على بعض الشوارع، حيث يمكن لمن يرغب من السَّيَّارة أنْ يتوقّف إلى جوارها، ثمّ يُدير مذياع رَكُوْبَتِهِ على موجةٍ إذاعيّة معينة ليستمع إلى تسجيل بصوت رخيم يقدّم المعلومات الوافية المختزلة في نصف دقيقة لزبون مُتعجِّلٍ تتفحّص عيناه مجسّماً منصوباً إلى جواره من دون أن يغادر سيّارته، متنعّماً بهوائها البارد ومتفيئاً ظلاها الظليلة.
أيُّ تطوّرٍ هذا؟ وأيّة جهالة تقابله؟ أيّ افتراء على الحقيقة نعيشهُ اليوم في عالمنا العربي؟
أذكرُ قبل عامين مقولة لحاكم الشارقة الذي يحمل مشعلَ علمٍ وثقافة ونور لا يُنكره إلّا جاحد. كان حينها يصف حال أمّتنا العربية قائلاً: إنْ كانتْ العروبة في وقتنا الحاضر تغرق، فإنّ الثقافةَ زورقُ نجاتها. وبالمناسبة فالشارقة تحتضن ستة عشر متحفاً. وقد بدأتْ إدارة المتاحف فيها قبل شهرين مشروعاً رائداً لخدمة ونشر ثقافة المتاحف، فَسَيَّرَتْ لأجل ذلك حافلةً ضخمة وحديثة، الحافلةُ بلا مقاعد غير أنّها مملؤة بعيّنات منتقاة من متاحفها لتشكّل كنزاً متنقّلاً يجوب مدارس الإمارة ويقدّم لطلبتها حُزماً ثقافية، ويرتقي بالأهداف الوجدانية التي تُقدّر الإرث الإنساني المحلّي والعالمي، وتأخذ على عاتقها رفع راية التنوير، في مقابل ثقافة الخِرَق والإشاعة والجهالات.
ليس يطرد هذا الظلام غير المزيد من العلم والثقافة، فَخَلْف كل يد تنهض رافعة مشعلاً من نور الوعي والاتزان، تنكفئ يدٌ أخرى بما تحمل من جهل وظلام. وبينهما، قد ينجو بوذا أو يُرجم مرّة ومرّات.