عبداللطيف عربيات: مات ابن البلد
د.مهند مبيضين
28-04-2019 05:28 PM
الموت هو الحق الذي لا مفر منه، والحياة التي عاشها المرحوم د. عبداللطيف عربيات، ماثلة بالعطاء، وفيرة بالندى ومحبة الناس، ولحظة الوفاة ومشهد الدفن، هو ما يليق بالكبار، وهو ما كان يتمناه رحمه الله بالدعاء دوماً بحسن الختام..» وفيما حدث له تكريس لمقولة «اصدق مع الله يصدقك»
إخوانياً ووطنياً وعربياً ظلّ الراحل مخلصاً لقضايا أمته، وفياً لقيمهِ الجميلة، وانسانيته وبحبوحته ورحابته المعهودة، كُلّ ذلك كان مقروناً بعباءة الرجاحة في الرأي الصائب، وتغليب العقل، منذ كان طالباً في قسم الهندسة جامعة بغداد ثم مبعوثاً إلى جامعة تكساس في الولايات المتحدة فأستاذاً جامعياً ومراقباً عاماً ونائباً، ورئيس مجلس نواب.
اشتغلّ الراحل بالمشهد الوطني مبكراً، في وزارة التربية والتعليم، حين كان اسحق الفرحان وزيرا للتربية والتعليم، وآنذاك عمّق عربيات القيم الإسلامية في المناهج، كما ساهم في إعداد جيل من التربويين، وكلّ ما حدث لاحقاً من تطوير للمناهج الإنسانية، كان يستهدف ما زرعه الرجل، حيث كانت الدعوة لتلبية زمن السلام والانفتاح ولبرلة التعليم.
ومع أن الرجل غادر التربية، إلا أن تراثه ظلّ فيها، وصعب التغيير، ولاحقاً كان عضواً في لجنة الميثاق الوطني العام 1990، ومؤسساً لجمعية العفاف المنبثقة عن احد مشاريع الحركة الإسلامية، وعضواً في لجنة الأجندة الوطنية العام 2005، ومن قبل كان نائباً عن الحركة الإسلامية في المجلس التاسع، وممثلا للوطن كرئيس مجلس نواب في زمن وطني عسير إبان حرب الخليج العام 1991، ودون أن تحيد بوصلته عن الواجهة الوطنية العامة.
خرج عربيات لاحقاً من المشهد السياسي الوظيفي لكنه، ظل حجة الأردنيين وصوت الاعتدال في جسد الإخوان، الذي لفه بعد العام 1991 مسحة تشدد، بفعل ظروف الجماعة الداخلية، التي انقسمت بين صقور وحمائم، فظل أبو سليمان قابلا للقسمة على الجميع وتوافقيا، لكنه في اللحظات المفصلية واضح ولا يجامل في الأمور التي تطلب القول الفصل منه.
لم يشط الراحل في رأيٍ، ولم يغلق الباب على الحوار في القضايا الوطنية، وبقي مواضباً على حضور جلسات المكتب التنفيذي لمجمع اللغة العربية، دونما كلل، بل في حضور تحفّه اللطافة واللباقة واحترام الذات، مع البعد عن السعي من اجل الدنيا.
كان بوسع الراحل أن يؤسس بنكا، أو اكاديمية تدريب أو دار نشر، ويتولى نشر كل أمر او تدريب كوادرها، لو أنه طلب ذلك حين تمت المصالحة مع الحركة الإسلامية والحكومة في حكومة مضر بدران العام 1990، بيد أنه لا يحترف فنون الاقتناص، ولكنه طلب غلق ملف ملاحقات الأمن للمنتسبين للإخوان والاحزاب، وطالب مع رفاقه بترخيص جامعة إسلامية هي جامعة الزرقاء، وتأسيس كلية شريعة في اليرموك، كانت تلك صفقة مباحة وربما مطلوبة في حال كانت جزءًا من كلفة العبور الديمقراطي مع أكبر حزب وجماعة منظمة، كي لا يتحول الاستبعاد الحكومي إلى شعور ديني محفوف بالمظلومية والإقصاء، وبالتالي العنف والعمل السري، وهو ما تجنبه الأردن ووقعت فيه بلدان عربية حين واجهت الصعود الإسلامي مطلع التسعينات بالعنف والغاء الانتخابات أو الانقلاب على نتائجها، وذلك ما حدث في الجزائر التي نجح فيها عباس مدني ورفاقه، ولاحقا ينقلب عمر البشير أيضا على شيخه حسن الترابي ثم يودعه السجن.
وللصدف أن يرحل في شهر واحد أحد افضل رموز الأخوان فكرا وثقافة واعتدالاً الشيخ الدكتور عبداللطيف عربيات ابو سليمان، وان يرحل نموذج المظلومية جراء إلغاء الحق بالفوز وهو الشيخ عباس مدني زعيم الحركة الإسلامية المقيم في الدوحة في أثر الابعاد والنفي السياسي من الجزائر، وكذلك يقصى النموذج البائس في السلطة الرئيس البشير عن كرسي الحكم وهو الابن المتخرج من جلباب الإخوان.
نعم كان عربيات رجل صلح ومصالحات، ورجل وطن، ووطنيات بعيدة عن التزلف والاصطياط، أو شهوة الحجاج، وحين جاء الربيع العربي وأطلّ اردنيا على انفتاح أخواني لشهوة الحكم والسلطة، لم يصدر عن الراحل إلا كلام العقل، وظل متوازناً حكيماً، في حين كان هناك من أراد ان تكون مناطق اردنية مثل درعا السورية وهناك من أفتى بجواز اراقة الدم من رموز الصقور في الإخوان.
لكن عربيات ظل وفياً لمدرسة الخلق والتربية، دون ان يجنح أو ينبهر بمكسب او موقع، بل راح يطلب السلامة للوطن دون النص على الامور دستورياً، وهذا ما قاله حول مسألة الحكومة البرلمانية عام 2011.
آنذاك روى عربيات في ندوة سياسية، أن الملك الراحل الحسين بن طلال طلب العام 1957 النائب عبدالحليم النمر لتشكيل الحكومة، لكن النمر اعتذر وتمنى على الملك أن يشكل الحكومة سليمان النابلسي بصفته رئيس الحزب الوطني الاشتراكي والذي كان قد ترشح للانتخابات ولم يحالفه النجاح.
وفي هذا التفصيل للحدث المهم والذي تزامن مع الحديث عن التعديلات الدستورية قال عبداللطيف عربيات في تلك الظهيرة «إنّ تشكيل الحكومة على أساس الأغلبية البرلمانية كان مضمناً في دستور العام 1952 دون النصّ عليه، وأن التشدد بالنصّ عليه في التعديلات الدستورية الحالية لا ضرورة له..»، وكلام عربيات كان حينها كلام الموقن بأن الظرف مواتٍ لاستثمار ما جرى من خطوات إصلاحية للمسير نحو الأفضل، وفي الدقائق القليلة التي جمعتنا به في تلك الندوة قال: «إنني كنت وما زلت افتخر بأني كنت معلماً وتدرجت في وزارة التربية والتعليم من معلم إلى أمين عام وزارة، وأكد على أن نجاح الأردنيين يكمن في بنائهم مؤسسة التربية والتعليم، وروى أن مضر بدران يوم جاء وزيرا للتربية والتعليم استدعاهم بعد شهر وقال لهم: «انتم لا تحتاجون لوزير لأن كل شيء يجري حسب القانون، وإن واجب الوزير فقط تمهير الكتب بتوقيعه، لأن الأمور تمضي حسب القانون وبشكل مؤسسي» يومها أكدّ د. عربيات رحمه الله على أن «احترام القانون يعتبر بوابة الإصلاح الحقيقي».
ألم نقل أن الرجل، وطني وصاحب رأي معتدل، ألم نقل أنه لم يتغير وينقلب على وطنه برغم كلّ ما كان يمكن أن يحصل عليه لو زار السفارة الأمريكية وقبل بالمساومة..؟
حين سألت وعزّيت اخي وصديقي د محمد السعودي أمين عام مجمع اللغة العربية بالراحل الكبير، وتذكرنا مسيرته بالمجتمع وحضوره المشع وحبوره في الدنيا، قال لقد كان ابن بلد حقيقي، فقلت: نعم مات ابن البلد. ولأنه كذلك كان الاردنيون أوفياء له، فغمرت صورته شبكات التواصل وانتشرت عبارات الرحمة والدعاء للفقيد؛ لأنه فقيد البلد وابنها.
كان أبو سليمان المعلم الذي احترف التربية، والنائب الذي جسد الأخلاق، ورئيس المجلس النيابي صاحب الهيبة والوقار، والوجيه الممتلئ بالتواضع، والشيخ الراغب دوما بحسن المآب، فكان له ما طلب ورجا ربه، رحمه الله رحمة واسعة وغفر له.
الدستور