في مثل هذا اليوم المجيد ...
كل عام ونحن بخير ...
رحم الله أمي ... التي كانت تسلق البيض في عدد من الطناجر... في حياة بريئة فتتشكل في عمرنا أجمل بهجة !
فتضع مجموعة من البيض مع قشر البصل للسلق على نار البابور المتوسطة الحرارة ... فتنزل الطنجرة وتضعها جانبا ونحن نتهيأ لانتظار الطنجرة الثانية التي أضافت أمي على مجموعة البيض فيها قطعا من الشمندر ثم تضعها على البابور ... ونحن ننتظر ونسترق المتعة نحو صواني القش المستديرة الملونة كيف ستمتليء بأجمل سطور البيض ...
وعلى أعصابنا حتى تضع الطنجرة الثالثة ومعها ملعقة من الكركم وبعد أن تبرد الثلاث طناجر... قليلا تبدا أمي بالتقاط كل بيضة دافئة بأصابعها الجميلة الطويلة التي كانت تشبه أصابع أشهر عازفي بيانو المحبة في زمن الالتئام الإجتماعي الجميل .... وتهندسها بألوانها الثلاثة حتى لتبدو لوحة بارزة المعالم المبدعة الجميلة حاملة ثلاثة ألوان من ( الأصفر والبني والخمري ) ...فتصطهج طفولتنا ولا نطلب تفسير الامتناع عن تقشيرها وأكلها ... فكل ما كان يتملكنا هو الحفاظ عليها زينة للهواء وموسيقى عيد لا نعرف هل هو عيد على الأرض أم عيد بين غيوم السماء ... وكل ما نعرفه أنه عيد متماسك غير مسموح لنا أبدا بتفتيش وتفغيش هذا الرمز البديع فيه ولا بعده ولا قبله .
تدعونا أمي لمساعدتها في تصفيط البيض في سلات القش التي نسجتها أمي ملونة بتخطيط لون علم او لون طبيعة او ألوان مبهرة الخطوط اللولبية بالصنارة من قش سنابل القمح من الحقل المحيط لبيتنا في أريحا ... حيث كنا ونحن صغار نتصيف باقات السنابل من وراء الحصادين ونرتبها كما نرتب باقات الورد ونربطها بقشة طرية لا تتقصف ولا تتكسر !
نضع مع امي السلال الحلوة في وسط السقيفة الواسعة المفروشة بفرشات الصوف المخططة بألوان مبهجة للبصر ...تنزل امي فرشات الصوف السميكة من ( مطوى ) الفراش وتروسها بالمخدات التي طرزت أمي على خاصرة المخدات أروع الآيات والورود وطقم البلابل بقطبة الغرزة النسلة .
كل شيء يبدو مبتهلا مبتهجا... شاف العصير الذي امتلأ بعصر البرتقال الذي عصرته أمي بيديها بعد أن قمنا أنا وأخوتي في الصباح الباكر من جمع البرتقال المتساقط ثمرا على تراب بيارة العلمي المجاورة ...
حيث لا يغضب كلب موسى العلمي علينا كلما زحفنا من تحت الأسلاك الشائكة ورحنا نملأ الأكياس الجميلة بكل ما تجود به أشجار الحمضيات المجاورة المحيطة لبيتنا المزروع عنبا وتينا وعمالقة من النخيل العالي يحرس ثمار الجنة في حوش الدار الواسع ... المغروس بالنعناع المجلل بالجوري ... وتتفتح في مثل هذا اليوم ازهار القواوير البنفسجية( أزهار المحكمة ) التي تتفتح في الصباح وتغلق براعمها ونوافذها في العصر!
بهجة وسعادة وملابس ملونة أحلاها فستاني البرلون الممنهج بالياسمين الابيض على أرضيته الكحلية الذي اخترت قماشته من قفص بائع القماش ( أنور الراعوش ) من على ظهر جحشته البيضاء التي يتزين عنقها بقلادة زرقاء وتتنشنشل من على ظهرها تحت القفص طراحة كالسرج مطرزة بهية ...أنور الذي يدور بين البيوت لجذب انتباه الأمهات لشراء أحدث ستايلات الأقمشة الفرنسية للبنات وينادي :
قماش فرنسي وافرنجي
حرير افرنجي ابرنجي...
وأعذب نداء كان حينما تخرج الأمهات للإطلاع على أحدث الأقمشة كانت جحشة الراعوش تنهق بسعادة يسمعها أريحا والنويعمة بأسرها! وتعم قلبي السعادة حينما أرتدي
الفستان الذي فصلته وخاطته وألبستني إياه الخياطة المشهورة جارتنا الصبية الجميلة بنت قرية الخيرية ( حليمة ... وهي شقيقة الشاب الوسيم جارنا الحيط بالحيط المعروف جدا هذه الأيام خليل السالم ) ...
نزهو بحياة تعتبر من آثار العز الإجتماعي والإنساني ... ونزهو مجتمعين حول المستنبت حيث نسمع أصوات أجراس دير قرنطل في أعلى الجبل المواجه لبيتنا في النويعمة...
ويبدأ الزوار في المساء ... ويحمل الأطفال هدايا البيض!... ونحضر معنا البيض بألوانه من بيوت الجيران والأحباب ...
نجمعه وكأنه شجيرة تنبت في القلب لم أشهد أنه انكسر أو تفتش ما في بطنه ...
كان ذاك البيض جميلا متماسكا ألوانه فرح ونشوة للناس!...
ولكن جاءت أيام لا يمكن لسلة بيض أن لا تتفغش وبعض الأصابع تبحث باطنهاوتعيث بمضمونها ولا تكترث بجهود الأمهات اللواتي أشعلن البوابير الحامية تلسع وجوههن تحت الوانها وأصنافها لتزين بسلالها حياة أعمارنا ! نعيد بكلمة كل عام ونحن بخير ...فتضحي شجرة طيبة أصلها ثابت بقدرة قادر ... وفرعها في الفضاء...
وأولهن أمي فاطمة أجمل الأمهات... وثانيهن جدتي مريم أم أمي ...
وكلمة ستنا مريم ! بتول النساء في الأرض والسماء ...!