تستحوذُ التمنياتُ على معظم الجزءِ اليقظِ من أوقاتنا. فِيمَ، تستهلكُ الاحلامُ، الجزء غير اليقظَ منه. الفرقُ بين التمنياتِ والاحلامِ جِدُ كبير، أو يجبُ أن يكونَ كذلك. لأن الاحلام تأتي على غير إرادة منا في الغالب، بينما التمنياتُ، هي صنيعةُ ومُخرجاتُ تفكيرنا، وعيوننا مفتوحة، أي بعد مغادرة سرير النوم.
تظهرُ المشكلةُ، عندما لا تختلفُ الاماني عن الاحلام، وهي الحالةُ التي يُطلقُ عليها أحلامُ اليقظة. عندما يشرع الانسان في بناءِ الاهرامات من رمال الشاطئ، وهو جالسٌ يراقبُ الامواجَ التي تتكسر عند أصابع قدميه، وعندما يُصممُ مركباتٍ فضائيةٍ تتنقل به بين الكواكب باحثا عن كل ما بخلت عليه به الارض. تحتاجُ التمنياتُ ومُرادفاتها الامال، الى إدراكٍ مُدرِكٍ للواقعِ، وإلى معرفةٍ بالحسابِ، وقدرةٍ على مُمارسة الحساب واستخدامه، حتى تتحرر من تُهمة أحلام اليقظة.
العربُ مُنذ ثمانين عاما وأمنيتهم الرئيسة، فشلُ المشروع الصهيوني، وفشل إتفاقية سايكس بيكو. بعد ذلك تصطف تمنياتٌ أُخرى كان يختلف ترتيبها ما بين حزب عقائدي وآخر.من بين تلك الاماني: الاستقلالُ كمقدمة لحصولهم على "إطعامٌ من جوع وأمانٍ من خوف"، الحريات بابعادها، العدالة، الوحدة، والتقدم في مختلف المجالات. إلا أنهم لا زالوا أبعد عن هذه الاماني مما كانوا عليه قبل ذلك التاريخ. فلقد اصبح العرب خاضعين لإحتلالين بدل الاحتلال الواحد. أُستُبدِلَ إحتلالُ عشيرة آل عثمان الذي طال عليه الأمد، والذي حَلَ محل إحتلال جيش العبيد المسمى المماليك، باحتلال فرنسي أو ايطالي أو انجليزي. ثم تم الضحكُ عليهم باستقلال يَحمِلُ في رحمهِ توئما من إحتلالين: القديمُ بعيونه الزرقاء، الذي غادرت بصاطيره، ولم تغادر أصابعهُ ولا آذانهُ ولا عقله المُدبر. والجديد التابع والاداة من ذوي العيون والقلوب والاكف السوداء كلون دخان جهنم، المتمثل بالاحتلال المحلي من قبلِ جيوشٍ هُزِمت في كافة المعارك العسكرية مع الاعداء الخارجيين، فرجعت تبحثُ عن نصر على شعبها الأعزل الذي يُطعمها ويكسوها ويُسلحها.
لم تتحقق أماني الاشتراكية ولا أماني العدالة ولا أماني الكرامة ولا أماني المساواه ولا أماني المواطنة ولا أماني التقدم، ولا أماني الوحدة ولا أماني تحرير فلسطين.
أصبحت فلسطينُ فلسطينان عدا ما أخذته اسرائيل، وأصبح العراق أعراقا ومذاهب في كيانات لا تقل عن ثلاث. واصبحت الشام دولا وعن قريب دويلات، واصبحت السودان سودانان حالكان جائعان مُخضبان بالدم، وليبيا ليبيتان تنزفان، والخليج قوس قزح من الاعراق والالوان.
أصبح الاسلامُ أديانا ومذاهب تدور بينها معاركُ تَغيرَ عُنوانها من داحس والغبراء الى: واحسيناه، وا علياه،؟ وا معاوياه،؟ وا حسن البنائاه، وا محمد بن عبدالوهاباه، وواهات كثيرة ، واختفى اسلام المليار ونصف.
في مواجهة اسرائيل وصفقة القرن، تتزاحمُ الاماني بإستعادة المفقود. ولكن المفقودَ لمْ يعد أرض فلسطين فقط، بل فُرص العمل والخبز والمسكن والتعليم والصحة والزواج والحرية والامن والحاضر والمستقبل والكرامة والمواطنة والمشاركة. تتناطح تلك الاماني على جدول اولويات الفلسطيني خصوصا، والعربي بشكل عام. فمن سيفوز بالمرتبة الاولى: الرغيفُ أم الارض؟ الدواء أم الارض؟ الكرامة أم الارض؟ الحريات أم الارض؟ الديموقراطية أم الارض؟
الواقعية تجيبنا بأن الخبز سيتفوق على الارض، وأن فرصة العمل ستتفوق على الارض وكذلك بقية الاولويات. ألم يعمل الاف الفلسطينيين في بناء المستوطنات وبناء الجدار العازل في فلسطين المحتلة؟ اليس سبب ذلك فقدان فرص العمل فيما تبقى من الوطن الذي تتنازع عليها حكومتان فلسطينيتان؟ اليس الحصولُ على ثمن الخبزِ والدواءِ هو ما دفعَ العمال ليبنوا بسواعدهم حصون أعدائهم ومحتلي اراضيهم وَمُشَرِديهم؟
ألا يترك الاردنيون والمصريون والسوريون واللبنانيون اوطانهم ليعملوا في الخليج، وأعزُ أمانيهم الحصول على جواز سفر خليجي رغم قساوة ظروف العمل هناك؟ أليس السبب هو أن وطنهم لا يوفر لهم فرص عمل مناسبة وحياة لائقة؟ الا يترك المستثمرون الاردنيون وطنهم الى تركيا والخليج ومصر مُتسببين بمزيد من البطالة والفقر والفوضى الامنية، لانهم فقدوا العدل والكرامة والمؤسسية، بل ومعظم مظاهر الدولة المدنية المعاصرة، وعلى وشك ان يفقدوا القدرة على شراء الخبز لاطفالهم أيضا؟ نعم الوطن مقدس، ولكنه لا يظل مقدسا رغم كل شئ، وليس المقدس الوحيد.
تبخرت أماني الشبع والتقدم والوحدة والكرامة والعدالة والاستقلال وأن تَكُفَ الدولةُ عن تجريف جيوب مواطنيها بلا مقابل كما كان الحال من مئات السنين، وتدحرجت دول العربان بفضل القيادات العسكرية التي إفترست المنافعَ كلها، من دولٍ نامية يُفترضُ أنها تُلاحقُ بضراوة الدول المتقدمة لتقفَ الى جانبها، الى دولٍ فاشلة. تَحولَ الفائض المأمول في الانتاج الى فائض في المديونية والارتهان للبنوك العائلية في الداخل والبنوك الاجنبية في الخارج. تحول الولاء من ولاء للدولة والوطن، الى ولاء للقرية أو الحي، أو العشيرة، ولمن أصبحوا يُسمونُ أنفسهم رموزأ وطنية من الذين تقلدوا المناصب الوظيفية العليا وخربوا الدول وأفشلوها.
طيلة تلك الفترة، كان جُلُ العرب، ولا زال بعضهم، يقفون بأمانيهم وأشواقهم وحماسهم وعقيدتهم في مواجهة عاطفية إنفعالية، مع أماني واشواق وحماسة وعقيدة مجموعة من البشر، تؤمن هي الاخرى بإنفعال عاطفي طاغ، أنها تستردُ ارضها المغتصبة ووطنها المفقود وملجأها الوحيد من التمييز والاضطهاد الذي عانت منه في بلدان الشتات. لتلك المجموعة دينها وعقيدتها التي تُرسخُ في أتباعها من "اليهود الصهاينة"، أنهم مُلاحقون باللعنة، ومغضوبٌ عليهم إن لم يستردوا القدس ويعيشوا فيها ويمارسوا شعائرهم الدينية فيها وسيادتهم عليها. فما الحل؟ وكيف يمكن لميناء لا يتسع الا الى سفينة واحدة، أن ترسوا فيه سفينتان مملوئتان بعواصف الاماني، لجماعتين متناقضتين متصارعتين عبر التاريخ كله، بدءاً من نفي إسماعيل وأُمه هاجر عليهما السلام، من الخليل لتخلو لسارة وإبنها اسحق عليه السلام، الى وادٍ غير ذي زرع، ليس أي واد، وإنما وادٍ غير ذي زرع، في صحراء النقب كما يقول العهد القديم من الكتاب المقدس، او وادي مكة كما يقول المفسرون المسلمون. ذلك الوادي المكتظ بالغرابيب السود؟
عندما يكون الصراعُ دينيا مَصدرهُ المزعوم السماء، وليس سياسيا ، تتعطل الوسائل والمبادرات السياسية، ويستحيلُ ترجمةُ مبدأ التعايش المشترك الانساني السلمي، لإن المكان لا يستحقه إلا المؤمن. فمن يقرر من هو المؤمن من بين فريقين كلاهما يدعي أنهُ المُؤمنُ، والاخر كافر كفرا بواحا؟ نحن أمام عقدة مركبة لا حل لها الا بإن يظفر طرف بجنة فلسطين وأن يُرمى بالطرف الاخر من الموانئ التي قدموا اليها، الى الموانئ التي قدموا منها، أو الى جهنم الصحاري العربية الممتدة شرق نهر الاردن ووادي عربة، مكررين تجربة هاجر واسماعيل عليه السلام مع ضعف احتمالية تدخل جبريل عليه السلام مرة أخرى لانقاذ المشردين العطشى.
يا مركب الوهم عُمرُ العرب ضاع.. ما بين أمل في لقا ووداع
بحر الاماني ماله مواني ... ضيع زمانك وضيع زماني
وضاع المركب إلا ربانه
بحر الاماني ما بيملى قناني ولا يروي عطشانين
الابيات بتصرف مني