أشاهد احيانا يوتيوبات المعارضين المقيمين خارج الاردن. يفاجأني ويزعجني ويؤسفني التخبط في مضمونها، وعدم المهنية في تقديمها، وعدم التحرز من دقة ومصداقية بعض موادها، وتزاحم رسائلها. دأبت تلك المواقع على تمرير معلومات سربت اليها من جهات محلية، وأحيانا خارجية، لمتابعيها خاصة الاردنيين، وعندما تشح عليها التسريبات يمارس اصحابها دورهم الطبيعي كصحفيين في البحث المنهجي وغير المنهجي للحصول على اخبار وتوقعات يبنون عليها تحليلاتهم.
بالرغم من تلك الانتقادات، فإن من غير الانصاف إنكار فضل تلك المواقع، المتمثل باطلاعها المواطن الاردني واحيانا العربي، على معلومات واخبار ضنت بها المواقع الرسمية تعمدا. فقد دأبت الجهات الحكومية، وبصورة مخالفة للقانون الذي يتيح حرية الوصول الى المعلومات، على إخفاء الحقائق كليا او الباسها لباسا يشوهها. وفي احيان اخرى، تقوم بما هو معاكس، حيث تعمد الى مكيجة الباطل ليظهر بإنه الصواب المبين، مستغلة الكسل العقلي، وعدم التدرب على البحث، للوصول الى الحقيقة، والتصديق التلقائي، والنقل الببغائي، عند معظم الاردنيين. فالحكومة لا تختلف عن بقية الاردنيين، لأنها منهم، تبدع في صناعة الاصنام، وتبدع اكثر في إغتيال الشخصيات وإغتيال التاريخ وإغتيال الجغرافيا، وفي كثير من الاحيان إغتيال الرياضيات. تصر الحكومات العربية على التعتيم لخلق العتمة، ثم تشتكي منها ومن اثارها.
هل من المعقول أن الحكومات لا تعرف ان الخفافيش لا تظهر الا في العتمة؟ الا تعلم الحكومات أن العقارب والثعابين والوحوش تفضل العتمة على النور؟ هل يأمن الانسان الطبيعي العتمة نائما او جالسا او ماشيا؟ الم يتم ترتيب الانقلابات والمؤمرات والانتفاضات في العتمة بعيدا عن أعين الجواسيس والمخبرين والمراقبين؟ ألا تعلم الحكومات أن الدول الديموقراطية "أمنت واستقرت وبالتالي تقدمت" لأنها تخلت عن التعتيم واختارت الشفافية، الا ما يخص أمنها الوطني وهو أمن الوطن وليس أمن الحكام والمسؤولين، مثل هذا الحذر لا تثريب عليه.
ما اطلبه من اصحاب اليوتيوبات ان يكونوا اكثر هدوئا اثناء تقديمهم للمعلومات، وأن يتحروا صحة وصدقية ودقة ما يقدمونه ويتلفظون به قبل أن يخرجوا الى الناس. في احيان كثيرة ينسى صاحب الفيديو اسماء الاشخاص الذين يشكلون محور حديثه، او ينسى الاماكن او التواريخ ويخلط الحابل بالنابل. هذا مستهجن جدا.
من غير اللائق أيضا، استخدام الالفاظ القبيحة والسباب المقذع ولغة الهمج والسوقة واعتباره خطابا سياسيا معارضا. قد يكون هذا السلوك مقبولا في البداية لجذب الاهتمام وزيادة اعداد المشاهدين في حلبة التنافس على اعينهم واذانهم. أما أن تصبح ثقافة بعض المواقع الاخبارية خارجة عن المعايير الاخلاقية المتعارف عليها لمن إختار المعارضة وابداء الرأي المخالف، فهذا مرفوض ومنفر.
من جانب اخر، هناك من اصحاب اليوتيوبات من ينبري لمعالجة المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها الاردن. يغيب عن بال هؤلاء أن من بين المشاهدين علماء وخبراء في الاقتصاد والادارة. لذلك عليهم إما ان يقدموا ما لديهم باسلوب ومستوى شعبي، وبما يلائم الغالبية غير المتعلمة وهذا يحقق غرضين: التوعية والشعبية لغايات انتخابية مستقبلية. وألا فان عليهم أن يعلموا انفسهم اولا مبادئ الاقتصاد والادراة، وأن يتدربوا على جمع البيانات وحسن استخدامها في التحليل وتقديم التوصيات، اذا كانوا يخاطبون الحكومة والطبقة المتعلمة وخصوصا المتخصصة في المجال.
تتألم الاذن ومن ثم العقل، من الاداء الردئ، وقد يتألم الوطن أكثر إذا ما صدّق اصحاب القرار والشعب، واقتنعوا بما يقوله انصاف المتخصصين، او المتخصصون الذين توقفوا أو انشغلوا عن التعلم، خاصة اذا ما قدر لهم أن يصلوا بعد ذلك الى مواقع اتخاذ القرار. إن الافتاء الخاطئ في الاقتصاد وفي الادارة وفي السياسة وفي الاجتماع لا يقل خطورة عن الافتاء الخاطئ في الدين والطب والهندسة. الا يكفي وطننا ما تسبب به الفريق الاقتصادي طيلة الخمسين عاما الماضية، والذي عبر عن مدى فداحته، واحد من اكبر اعضائه والذي تقلد ولا زال معظم المناصب الوزارية حيث قال في احدى الندوات: " عندما أرجع بالذاكرة الى الوراء، وأقيّم ما فعلناه، ادرك الى أي حد كنا سذج". ألم يأن الاوان لان ننتهي من عصابة السذج؟