في سائر دول الكوكب , السياسة الخارجية للدول شأن يخص رأس الدولة ملكا كان أم رئيسا أو أميرا , وهو صاحب الكلمة الفصل في هذا الشأن , إعتمادا على معلومات موثقة وإستشارات أمينة محكمة .
وحتى في دول عالم اليوم ذات الحزب الحاكم وأكبرها أميركا أم المؤسسات كما يقال , يتولى " ترمب " شخصيا تحديد مسار السياسة الخارجية لبلاده , إعتمادا على ما توفره له تلك المؤسسات من معلومات , وأحيانا بدونها, إذ يغرد كما يشاء , وفي أمور مفصلية داخلية وخارجية , حتى أن وزير خارجيته قال مؤخرا .. أنا باق في منصبي إلى أن يغرد ترمب ! . لا بل فقد قرأت أكثر من ذلك ولا أعرف مدى دقته , وهو أن زوجته تخفي عنه هاتفه أحيانا خشية أن يغرد !.
في الأردن نحن أيضا دولة مؤسسات من مهامها توفير المعلومات ووضعها بين يدي جلالة الملك رأس الدولة وقائد الوطن , وكذلك دولة رئيس الوزراء كما أعرف عندما كنت مستشارا في رئاسة الوزراء , وكما للبيوت أسرارها , فإن للدول أيضا أسرارها , وإلا غدت ساحة لمن هب ودب يلعب بها كما يشاء ووفقا لهواه .
مناسبة هذا الكلام, هو الكثرة الكاثرة مما نقرأ ونسمع من تحليلات وكتابات وتصريحات وتعليقات وخطابات حول السياسة الخارجية للمملكة , فبعضها ينطوي على عمق يستحق الإنصات , وبعضها الأغلب سطحي لإفتقاره أصلا لقاعدة معلوماتية صحيحة , وبعضها صاحب هوى خاص , أي على طريقة من يريد أن تأتي الأقدار على هواه , لا وفق مشيئة الله سبحانه , ولا حتى بما يخدم المصالح العامة والعليا للبلاد وللعباد .
فمن تلك الآراء والتحليلات والكتابات والتعليقات , ما يذم دولة شقيقة أو صديقة , ومنها ما يمدح دولة شقيقة أو صديقة على حساب غيرها , وأخرى تطالب بتوجيه بوصلة علاقاتنا في إتجاه , وحرفها عن إتجاه آخر , وهكذا نجد أنفسنا في دوامة من تضارب المواقف والآراء التي نحن بغنى عن بعض آثارها السلبية علينا, وعلى بلدنا وشعبنا, وعلى مصالحنا المنتشرة في كل الأرجاء .
جلالة الملك وبحكم كونه الجالس على عرش المملكة, هو الأكثر دراية بالشؤون العامة داخليا وخارجيا , وبتقاطع المصالح الإقليمية والدولية , وبتنافرها وتلاقيها , وهو لذلك , وبما توفر له المؤسسات المختصة من معلومات وإستشارات لا تتوفر لغيره , الأقدر دون غيره , على تحديد جوهر ومضمون السياسة الخارجية للمملكة , وبما يخدم المصالح العليا للوطن والعامة للشعب .
وجلالته .. ولا أعتقد أن أحدا يمكن أن يظلم حظه وينكر , يؤدي عملا رائعا جدا على هذا الصعيد , وإلا لما كنا خرجنا سالمين حتى الآن وبحمد الله وتوفيقه سبحانه , من أتون عقد كامل من جحيم عربي حصد الأخضر واليابس على حد سواء, وإلا كان لنا لا قدر الله حالا لا نريده , ولا نتمناه لشقيق أو صديق .
وهنا لا بد من الإشادة بموقف شعبنا الكريم الذي نال إعجاب الدنيا كلها بوعيه وحرصه الذي نسأل الله أن يستمر دوما , على سلامة وطنه, وتجنيبه الدخول في معترك فوضى أرهقت شعوبا شقيقة وما زالت , ووجدت عندنا الملاذ الآمن , وطيب الملقى والملفى معا .
ليس مطلوبا من "الملك " أن يطلع كل مواطن على كل صغيرة وكبيرة مما يعرف , ومما يجري على صعيد علاقاتنا العربية والإقليمية والدولية , لكنه يطمئننا جميعا وبإستمرار , بأن علاقاتنا هذه بخير, برغم المخاوف التي يثيرها الكثيرون منا, جراء ما يسمعون عما يسمى بصفقة القرن , علما بأن جلالته كان قد حسم الأمر وبالكلية, وحدد موقف المملكة غير مرة , من هذه الصفقة التي أعتقد شخصيا , أنها مجرد حلم أو وهم وحبر على ورق لن تجد طريقها للتنفيذ , إلا إذا كنا نحن الفلسطينيين والأردنيين تحديدا, نريد لها أن تمر, على نحو ما نسمع عنها , وهذا من رابع المستحيلات , بإعتبارها وكما هو معلن منها وعنها , وببساطة , ليست حلا , وإنما هي عقدة بحاجة إلى حل !! .
تشرفت وذوات كرام قبل عدة أيام بلقاء طيب مع جلالة الملك , تناول فيه جلالته شؤونا داخلية وخارجية بإرتجال شفاف صريح , وأجاب جلالته عن اسئلة الحضور وملاحظاتهم بالسوية ذاتها .
ولم نسمع جميعنا , الحضور وأنا منهم , كلمة تغمز لا قدر الله من جانب قطر عربي شقيق, أو حتى بلد صديق , بل على العكس من ذلك تماما , سمعنا كلاما ملكيا ساميا في رفعة معانيه , يطمئننا على أن علاقاتنا طيبة مع الأشقاء والأصدقاء جميعا , وأن رؤية المملكة مقدرة وتحترم تماما , لدى سائر من إلتقاهم جلالته من قادة العالم , لأنها رؤية صائبة , تسعى من أجل سلام عادل يوفر الأمن والسلام والإستقرار, ولصالح شعوب المنطقة كلها .
خلاصة القول , أرجو أن لا يفهم كلامي على أنه حجر على صاحب رأي أن يبديه , لا , فهذا حق للجميع , خاصة عندما يكون رأيا يعتد به ويستفاد منه , وإنما هو مقترح بأن نترك نحن المجتهدين من خارج السلطات الرسمية , أمر السياسة الخارجية في تفاصيلها الدقيقة بالذات , لجلالة الملك , ولحكومة جلالته , فالملك هو الأخبر والأقدر على توجيه البوصلة وفقا للمصالح العليا للوطن , وهو يؤدي عملا أكثر من رائع على هذا الصعيد , حيث حزم متى وجب , ولين متى وجب , وهو يسافر حيث يجب , ويمتنع حيث يجب , وهو يطبق منهجية الكبير في شخصه الكريم على أصولها .. عندما نقول نحن في موروثنا العشائري المعبر جدا , فلان فعل ما عليه وكفى ووفى , ولذلك, فهو" لا يأتي , بل يؤتى إليه" .
السياسة الخارجية بتفاصيلها , شأن يخص " الملك" , وعلى كثير من المجتهدين أن يرحمونا قليلا . والله جل جلاله من وراء القصد .