لم أستطع أن أخفي امتعاضي الشديد وأنا أحرر تقرير الحاج نصري أبو غلوس الذي نشرته "الغد" أول من أمس. لقد أحسست لوهلة أنني مقذوف في زمن ينتسب إلى ما قبل عصر الرق والجواري، حيث المرأة تشترى وتباع بأبخس الأثمان وبأكثر الطرق مهانة.
ولست في صدد مناقشة أبي غلوس في آرائه وفي تجاربه التي لا تعدم من يؤيدها من أهل اليمين ومن أهل اليسار، لكنني مأهول بغضب على النساء أنفسهن، في بلادنا وفي بلاد العرب المترامية من الصحراء إلى الصحراء.
فما كان لأبي غلوس أن يجهر بدعوته لإطلاق جمعية لتعدد الزوجات، لو أن ثمة حركة نسائية حقيقية ومجتمعا مدنيا ناضجا يوقف الإسراف في مهزلة تعدد الزوجات بذريعة "ستر بنات المسلمين".
ولا أماري في الحق إن جهرت بالدعوة إلى "منع تعدد الزوجات"، احتراما لإنسانية المرأة وصيانة لكرامتها بصفتها نصف المجتمع ومستقبل العالم.
أما إطلاق إباحة الزواج على عواهنها فإن فيه خروجا على القواعد النبيلة والسامية للدين الذي وضع اشتراطات على مبدأ تعدد الزوجات الذي شاع في ظرف زماني محدد، وبالتالي فإن سحب الأمر على الأزمان كافة فيه تعطيل للمحتوى العقلي للشريعة.
ولطالما دعوت، وسأبقى بلا كلل أو ملل، إلى حقن الفقهاء بمصل الشجاعة والجرأة في الاجتهاد، لكيلا تصبح بعض القواعد الدينية خارج نطاق التحولات العصرية، بكل ما تحمله من تغيرات اقتصادية واجتماعية ومعرفية.
ولأن الدين وجد لتنظيم حياة الناس في سائر أبعادها، فإن على كاهل الفقهاء والمشرعين أن يراعوا جعله صالحا لكل زمان ومكان. وفي انتقاده اللاذع لموضوعة الاستشراق كان المفكر الراحل إدوارد سعيد يحمل بشدّة على المقاربات التي تتناول الإسلام خارج التاريخ. كما كان يرى أن تلك المقاربات تنطوي على أبعاد تحقيرية تعتبر أن في الإسلام "رصيدا جينيا" يتغذى على التعصّب والانغلاق.
فالرجل الذي كان مباحا له أن يتزوج من النساء مثنى وثلاث ورباع في زمن كانت فيه الدولة الإسلامية تتوسع وتتمدد، وكان عدد الرجال أقل بكثير من عدد النساء، لم يعد هو ذاته رجل العصر الحديث الذي ارتاح من المعارك والفتوحات، وعلق سيفه وترسه على الجدار، وأضحى عدد أبناء جنسه الذكور متناسبا مع عدد الإناث.
ولا يعيب أي دين أن يعترف بحقوق المرأة كاملة في العمل والزواج والحياة والإبداع، وتبوؤ أرفع المناصب، وصياغة أدق السياسات، ووضع أخطر الاستراتيجيات.
ولا يستقيم مثل هذا الأمر مع تفكير ذكوري ما يزال يرى في المرأة عضوا جنسيا وأداة للتفريخ وعاملة تطبخ وتكنس وتغسل الأواني. فمثل هذا الحصر الضيق لدور المرأة امتهان لوجودها وانتقاص من كينونتها وإعادة لعجلة الزمن قرونا إلى الوراء السحيق.
وكنت وما أزال معجبا بالتجربة التونسية فيما خص مدونة الأحوال الشخصية التي جرى اعتمادها في العام 1957 والتي منعت تعدّد الزوجات، وفرضت الطلاق بالتقاضي، وحدّدت سنّا أدنى لزواج المرأة. وطاول هذه المدونة عدد من الإصلاحات التقدمية في العام 1992 اشتملت على تعويض مبدأ الطاعة للزوج بمبدأ الاحترام المتبادل، وإعطاء الولاية للأم في حال غياب الأب، فضلا عن إعطاء الأم حقّ منح جنسيتها لابنها.
ومن شأن النظر في هذه الإصلاحات أن يرتقي بالبناء النفسي والروحي للمرأة إلى مرتقيات إنسانية بعيدة، لا سيما أن هذه الإصلاحات لا تتصادم أبدا مع جوهر الدين ولا تخالف روح الشريعة.
أما أن يترك الحبل على الغارب لأبي غلوس وأمثاله، فإننا بذلك نشرّع التمزق الاجتماعي بأشكاله كافة من حيث لا نحتسب، ولنا أن نتخيل مصائر إحدى عشرة زوجة اقترن بهن أبو غلوس ثم طلقهن، ولنا أن نتفرس في أقدار بناتهن وأبنائهن، ولنا أن نتخيل الحال النفسية لامرأة يدفع لها "زوجها" مالا (بمثابة خلو رجل) لكي توافق على الطلاق، وبالتالي تفسح له المجال كي يتزوج بأخرى أكثر شبابا وأشد يفاعة، وهكذا دواليك في متوالية لا تنتهي من الامتهان والاسترقاق والعودة إلى عهد الجواري وأسواق النخاسة.
m.barhouma@alghad.jo
** الزميل الكاتب رئيس تحرير يومية الغد ..