جدلية القمصان الاربعة ومآلاتها التاريخيه
د. عادل يعقوب الشمايله
14-04-2019 11:21 AM
أربعةُ قُمصانٍ لُطِخَتْ إفتراءاً بالدم. ورغمَ مُرورِ قرون عديدة على حدوث بعضها، الا أن القمصان لم ترتوي بعد. إذ لا زالت تستنزف دماءاً جديدة لتكون الزيت الذي يُشعلُ نيران الفتنة والحروب، فالتشتت والضياع والتخلف.
القميصُ الاول: قميصُ يوسف بن يعقوب (اسرائيل). القميصُ الثاني قميصُ عثمان بن عفان، القميصُ الثالثُ قميصُ الحسين بن علي، والقميصُ الرابعُ قميصَ صدام حسين.
يروي القرآن الكريم في سورة يوسف، قصة القميص الاول والذي لا يختلفُ في محتواه عن ما أورده العهد القديم. تآمر إخوةُ يوسفَ عليه لأنه كان محظيا عند أبيهم أكثر منهم. الابُ النبي إبنُ النبي، إبنُ جد الانبياء ابراهيم ، كان يُميزُ بين أبنائه، فيُدللُ يوسف لانه الاصغر، أو لأنه الاجملُ خِلقةً. ويصلُ الامر بالاب أن يزرع الخوف والريبة في قلب الصبي من إخوته، فيُحذرهُ من إطلاع إخوته على رؤيا رأها، حتى لا يكيدوا له. جرى هذا في بيت نبي، جرى هذا في بيت إسرائيل.
كانت نتيجةُ التمييزِ، بالتقريب والاقصاء بين إخوةٍ، الاصلُ أنهم متساوون، أن قرروا القيام بانقلاب دموي. إقتنعوا، أن لا بد من الخلاص من يوسف للخلاص من حالة التمييز، والتفضيل والاقصاء. وبتأثير من أخيهم الاكبر، تخلوا عن نية قتل يوسف، وتوافقوا على رميه في بئر ماء. المُهمُ عندهم، أنْ يَصفُ لهم وجهُ أبيهم، أن يعودَ الابُ، أبا للجميع دون محاباة. وحتى لا يُتهموا من أبيهم، الذي كان يتوجس منهم خيفة على حبيبه، يقول القرآن "وجاؤا على قميصه بدم كذب". قَدَّمَ إخوةُ يوسفَ قميصه لأبيهم، بعد أن لطخوه بدماء شاة، ليوهموهُ أنه دم يوسف الذي سال منه عندما افترسه الذئب، وبهذا فإنهم لا ذنب لهم بعدم عودته الى أبيه.
أُخذَ يوسفُ وبيعَ عبداً من قبل من عثر عليه في البئر، إلا أنه أصبح، بعد سلسلة من الاحداث، وزيرا للتموين في مصر. إثر ذلك وبعد تَمكُنهِ، أحضرَ أبويه وإخوته الى مصر واستقروا فيها، وخلفتهم ذريتهم لعدة قرون، الى أن ظهر من بين تلك الذرية، التي تجاوز تعدادها عشرات الالاف، موسى بن عمران. بعد أن مات يوسف، إستجاب فراعنة مصر لإحتجاجات الشعب المصري على المزايا التي تمتع بها بنو إسرائيل أثناء حكم يوسف، وأنهم، أي المصريين، أصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية في بلدهم، فتم تحويل بني اسرائيل الى عبيد لفرعون. عندما شب موسى، تأسى لظروف معيشة قومه وهو يراهم يعانون من التمييز والاضطهاد، وهم الذين ثار اجدادهم على الاضهاد والتمييز داخل اسرة أبيهم النبي.
كُلف موسى بالنبوة والرسالة لبني اسرائيل وحدهم (ذرية يعقوب)، وبإخراجهم من مصر الى الارض، التي أهداها إلهُ ابراهيم له ولذريته من بعده، رغم أنها كانت مسكونة بقبائل الكنعانيين والحثيين. تسبب خروج بني اسرائيل بغير رضا سيدهم "الفرعون"، بنكبة على مصر، نكبة هزيمة الجيش المصري الذي لاحق موسى وقومِهِ من بني اسرائيل، حيثُ غرق الجيش في الماء وبذلك سجل التاريخ أُولى هزائمِ الجيش المصري في مواجهة الاسرائيلين. إحتل الاسرائيليون بعد خروجهم بأمر من الله، وتنفيذا لوعده لهم بالتمكين كما ورد في القران وفي العهد القديم، أرض كنعان (معظم فلسطين الحالية). ومنذ صدور الوعد الاول من الله، وصدور الوعد الثاني من بلفور، ابتدأ صراع توقف أحيانا، لكنه لم ينته على تلك البقعة بين أحفاد إبني ابراهيم. كلاهما يعتقدُ أنهُ الافضلُ وأنهُ الاميزُ وأنهُ الاطهرُ والصالح وبالتالي فإنهُ الاقربُ الى الله، ولذلك فإنهُ يستحقها خالصةً لهُ من دونِ الآخر. لهذا، لن تستطيعَ صفقةُ القرن أن تُنهي صفقة الدهر. لن تستطيع أن تُنهي الصراعَ بين الأنا والأنا. لن تستطيع أن تمحو، وتمنع نفاذ وعود الاكثر قوة.
أما بالنسبة الى القميص الثاني، قميصِ عثمان الذي لُطِخَ بدمه، بعد أن قتلهُ الثوارُ المُحتجينَ على التمييز وعدم العدالة بين المسلمين، وإيثارِ عثمان لأقربائه من بني أُمية على باقي المسلمين. لم يقتنع عثمان بنصائح الصحابة له بالتوقف عن محاباة أقاربه وعن إقتصار المناصب والقيادات العسكرية والعطايا عليهم وعلى ألمقربين منه، لذلك حدث له ما حدث. ( أنا لم اكن شاهدا على الاحداث. انا أستندُ الى الروايات التي دُرِّست في المدارس والتي يُلقيها خُطباء الجمعة، وما يُمكنُ لأي باحث مُحايدٍ أن يجده في بطون كتب السيرة). الجدير بالاهتمام هنا، ما حدث بعد قتل عثمان، وكيفَ أصبح قميصهُ علماً لحربٍ بدأت ولم تتوقف، رغم عشرات الالاف من القتلى ومرور مئات السنين.
أما القميص الثالث فهو قميص الحسين بن علي. خرج الحسين متمرداً على الحكم الذي اصبح وراثيا. خرج ليُعبرَ عن رفضه إختطاف الحُكم وتداوله بالتوريث الذي إبتدعه معاوية. يُقابلُ هذا الزعم، زعمٌ آخر، هو أن الحسين كان يرى أنهُ الأولى بالملك من يزيد، فهو إبن علي، وحفيدُ النبي عليه الصلاة والسلام. ولذلك قَبِلَ بيعة أهل الكوفة بتسرع وتهورٍ بالغ، ولم يستمع للنصائح وصوت العقل، لان مكاسب الكرسي كانت طاغية على مشاعره. المهمُ أننا أمام حالتي زعمٍ بالتَمَيُزِ، وما يترتب على التميز من إستحقاقات، الحالة الاموية والحالة العلوية. الشيعة، وخاصةً الإماميةُ، يرون ان الامام علي وذريته، أولى بحكم وإمامة المسلمين الى قيام الساعة. هذا الموقف الذي يُميز بين عائلة من عوائل المسلمين، وبقية العوائل والافراد، يرفضهُ بقيةُ المسلمين ويرفضهُ مبدأ تساوي المسلمين في الحقوق والواجبات، وترفضه قاعدة أن أفضلكم عند الله أتقاكم، ويرفضه تحذيرُ النبي محمد عليه الصلاة والسلام لاقربائه من بني هاشم، بأن لا يأتوه يوم القيامة بأنسابهم طالبين الاستثناء ودخول الجنة، في حين تأتيه بقيةُ أُمته بأعمالهم.
قُتلَ الحسين بن علي، فكان أن أنجبَ قميصُ عثمان قميصا جديدا هو قميصُ الحسين. وأنجب القميصان مذهباً دينيأ مُنشقاً واتباعاً بعشرات الملايين يشتكون ويتألمون من المظلومية والاقصاء، ولا يفترون عن المناداة بالثأر ممن لا قميص عندهم وهم أهل السنة.
ولأن الشيعة لا يقتنعون إلا بما أمنوا به وِراثةً، من تقسيمِ المسلمين الى أسياد وعبيد. وأن الاسيادَ أسيادٌ بالولادة وبالدم، هبةً إلهية، وليس بالكفاءة والقدرة والخبرة، ولأن السُنةَ لا يقتنعون بدعوى الشيعة، كما لا يقتنعون بالديموقراطية، بل بالبيعة لسلطان قاهر، تبعاً لاختيار المخاتير والمشايخ (أهل الحل والعقد) أو بشرعية الغلبة، مما يجعلهم يقفون مع القوة وليس مع العدالة والمساواة والكفاءة، فإن الصراع داخل البيت السني سيظل صراعا أزليا، لن يزول الا بزوال أتباعه. ومن ناحية أُخرى، سيظلُ الصراعُ بين حملة قميصي عثمان والحسين من جهة، وحملة سيف معاوية ويزيد من جهة أُخرى، قائما الى أن يُصفي أحدهم الآخر، أو الى أن يتم إخراج العقل في بلاد المسلمين من زنزانته المظلمة، وتصبح قيمُ العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، وعدم الاقصاء، واحترام الكرامة الانسانية وحقوق الانسان قيما مجتمعية تعلو ولا يعلى عليها.
هذه النتيجة تفسر ما حصل للقميص الرابع، قميص صدام. إبتدأ صدام عهده برفع شعارات العروبة طبقا لمبادئ حزب البعث. كان لا بأس أن يفعل ذلك لو أنه وصل الى الحكم بالانتخاب الحر والنزيه بناءاً على برنامج وشعارات البعث. ولكنه وصل الى الحكم بعد سلسة من المحاولات الانقلابية الدموية. كانت النتيجة أن تأججت صحوة الاكراد على قوميتهم التي يتم إخفائها تحت عباءة القومية العربية. خاصة وأن الاكراد هم اهل العراق منذ قرون عديدة قبل الغزو العربي الاسلامي لبلادهم. سياسةِ التَميُزِ التي إنتهجها صدام، تميز القومية العربية على قوميات اخرى متعددة في العراق الى جانب القومية الكردية، زرعت بذور ما آل اليه مصيره.
لم يكتف صدام بالتمييز القومي، بل قام بإفتعال حرب دينية قومية مع جارته ايران. رفع صدام شعارات صِداميةٍ استعلائيةٍ مع القومية الفارسية، ومع المذهب الشيعي. كانت النتيجة هزيمته هزيمة مذله. وتكرر السلوك الاستعلائي، وانضم اليه سلوك همجي لا يجوز ان يُمارس من حيث المبدأ، فكيف مع أبناء قومية واحدة، عندما احتل الكويت حيث قام جيشه بالنهب والسلب والاغتصاب. سيق صدام الى حبل المشنقة بعد عقود من التمييز غير المبرر بين العرب وغير العرب، والسنة والشيعة، والبعثيين وغير البعثيين، والتكريتي مقابل غيرهم من القبائل والمناطق. لا زال بقايا البعثيين العراقيين، والمخدوعين بالدعاية المضللة وما خلقته من اوهام ، يحملون قميص صدام ويطالبون بالثأر من أمريكا وايران وسوريا والسعودية والكويت، بل من العالم كله. صدام وبس، وينسون فظائع حكمه والملايين الذين قتلهم او تسبب في قتلهم. الى أين سيقود هذا العمى الفكري والقومي والديني والانساني؟