لا يمكن لعربي منصف , أن ينكر حقيقة أن الشجاعة والصراحة التي وظفها جلالة الملك عبدالله الثاني .. وهو على حق .. في عرض مخاطر ومحاذير " صفقة القرن " على حاضر ومستقبل الشرق الأوسط وجميع من هم على حوافه , قد حققت حتى الآن نجاحات بارزة في كشف عورات تلك الصفقة , وأخطارها الجسيمة جدا على السلم العالمي برمته .
والدليل , هو ما بدأنا نشهده من تطورات في المواقف الإقليمية والدولية إزاء هذه الصفقة المتهورة , فنحن سعداء بما نسب لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز من قول : نقبل بما تقبل به السلطة الفلسطينية, وإدارة الأوقاف في المقدسات في القدس الشريف هي للأشقاء في الأردن , وهذا أمر معروف .
والمعلوم المعلن هو أن السلطة الفلسطينية ترفض الصفقة من أساسها , وتقر بالوصاية الهاشمية وإدارة الأوقاف الأردنية للمقدسات في القدس الشريف .
تصريحات الملك سلمان هذه بالإضافة لموقف الرياض المعلن أصلا من الحل السلمي للقضية , لا تترك فرصة لأحد للتشكيك بموقف السعودية مما يسمى بصفقة القرن , وبالذات من يحاولون وبإصرار مريب , تصوير الأمور كما لو كان هنالك خلاف وقطيعة بين الأردن والسعودية حيال قضية فلسطين , والقدس بالذات ! .
جهود الملك عبدالله الثاني المكثفة والجريئة , كشفت لجميع الأشقاء والأصدقاء , مدى تهور وسطحية القائمين على صفقة القرن , ومدى خطورة الأطماع الصهيونية في المنطقة العربية كلها , أكرر كلها! , وكذلك مدى الإنعكاس السلبي المدمر الذي ستجره على الشرق الأوسط بمجمله , وعلى شعوب ضفتي المتوسط جميعها , فضلا عن دول إقليمية عديدة .
روسيا , الصين , فرنسا , ألمانيا , بريطانيا , إيطاليا , تركيا , ودول نفوذ إقليمي وعالمي عديدة , باتت على قناعة راسخة بأن " صفقة القرن " , هي مجرد صفعة بائسة لسائر دول الشرق الأوسط ولمصالح سائر الدول المرتبطة بها , ولمجمل السلم الدولي .
أشقاؤنا العرب , باتوا على قناعة وثقة تامتين , بأن تحركات وجهود جلالة الملك المكثفة والمتسارعة لها حقا ما يستوجبها وبقوة , فالصفقة وما تم توطئته لها , هي عمليا ليست حلا سميا عادلا ولا حتى ربع عادل , وإنما هي تصفية وبالمزاد المالي العلني لقضية فلسطين , وتهجير قسري للشعب الفلسطيني مما تبقى من وطنه . وإلى أين ! , إلى الأردن الذي يعتبر أكبر بلد في العالم من حيث تعداد اللاجئين فيه, فكيف سيكون حاله عندها ! . وهذا أمر يرفضه معا وبقوة , الشعبان الأردني والفلسطيني , فبدلا من حل عادل لقضية اللأجئين كما طالب ويطالب العالم كله , تؤسس الصفقة لإيجاد قضية لاجئين جدد ! .
في المقابل , فإن ما يدعو له جلالة الملك عبدالله الثاني , هو مشروع سلام حقيقي يعيد الحق المسلوب لأهله , ويحقق سلاما تاريخيا ينهي الصراع وإلى الأبد , وفقا لمبادرة السلام العربية التي نادت بها قمة بيروت العربية عام 2002 , والتي طرحها في حينه , الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله , وحازت إجماع العرب بمن فيهم الفلسطينيون , وهي مبادرة إنسجمت وبالكلية مع قرارات الشرعية الدولية , لا بل وزادت عليها ما يطمئن الطرف الآخر أكثر فأكثر .
لاءات جلالة الملك الثلاث , لم تكن " صدمة تصحوية إيجابية جدا " لشعبنا الأردني وحده , وإنما لأشقائنا العرب ولأصدقائنا في هذا العالم . وبينت دونما لبس وبوضوح تام , أن الصفقة الصفعة , تعني وببساطة , بيع فلسطين للصهيونية العالمية , وإنهاء عروبة القدس الشريف ومقدساتها , والتضحية بالأردن , وإجلاء جميع الشعب الفلسطيني عن وطنه وبالقوتين الناعمة والخشنة معا , أي بالمال لمن قد يرضخ, وبقوة السلاح لمن يرفض . لا بل والسطوة على الجولان السوري , والجزء الذي ما زال محتلا من لبنان , والحبل على الجرار لما قد يرى " نتنياهو " أن من المناسب الإستحواذ عليه من أرض العرب !! .
ثم , تعالوا نقرأ النظرة الحقيقية للإدارة الأميركية الحالية للعرب , وحتى إزاء حلفاء الولايات المتحدة التقليديين , أو من تسميهم هي بالحلفاء , ومنهم مثلا , مصر , السعودية , والأردن . فهي ترفض وبشدة حصول مصر الشقيقة على طائرات روسية متطورة , بينما تزود إسرائيل بأحدث الأسلحة والطائرات ! , وهي ترفض وعلى لسان وزير خارجيتها أن تكون السعودية الشقيقة دولة نووية , ولا يتردد وزير خارجيتها في تبرير هذا الرفض بقوله , كي لا تهدد الولايات المتحدة وإسرائيل !
, أي يجوز لإسرائيل الإحتفاظ بترسانتها النووية التي تهدد الشرق الأوسط والعالم كله , أما السعودية , فلا , مع أن برنامجها المقترح , لأغراض سلمية ! . ولا يضير الإدارة الأميركية الحالية توطين اللاجئين في الأردن وإدخاله في دوامة فوضى لا قدر الله , وحتى الإنتقاص من الوصاية الهاشمية التاريخية على المقدسات , وفرض السيادة الإسرائيلية عليها! .
برغم كل هذا الإستخفاف من جانب الإدارة الأميركية بالعرب وبحقوقهم التاريخية وبأوطانهم ومقدساتهم , تواصل دعوتهم للدخول في ما تسميه " ناتو " عربي أميركي لحماية المنطقة والدفاع عنها ! , فهي تريد إبعاد إيران عن المنطقة ليس من أجل سواد عيون العرب , وإنما هي تتخذ من ذلك ذريعة لإبعادها عن إسرائيل تحديدا, وعن مناطق نفوذها , وبسلاحنا نحن العرب .
حبذا, ولكم نتمنى لو أن حكام إيران ينتزعون هذه الورقة من يدها , فيكفون عن التدخل في الشؤون الداخلية العربية , ويعودون إلى داخل حدودهم , ويمدون أيديهم لجوار طبيعي مع العرب , ليروا عندها هل سيتعرض لهم أو يشكو تدخلاتهم قطر عربي واحد . حبذا لو يفعلون , وهم الذين يرغمون العرب على مجافاتهم بسبب تدخلاتهم تلك , مع أن الأمر الطبيعي أن تكون علاقاتهم مع العرب , في أحسن حال .
ختاما , وإحقاقا للحق ودرءا للباطل , ندعو لصفقة قرن عربية عادلة , وليس أميركية مشحونة بالباطل , ونطالب عالمنا العربي شعوبا وحكومات وسائر الدول والشعوب الصديقة الداعمة للحق والسلام العادل , بدعم صفقة قرن عربية ستحفظ لشعوب المنطقة حقوقها وكرامتها , وتوظف قدراتها في خدمة رخاء عيش شعوبها , لا صفقة قرن تؤجج الصراع والعنف والحروب , وما سينجم عنها من دماء وخراب وتشرد ودمار سيدخل الشرق الأوسط كله , في نفق أكثر ظلاما ولا نهاية له , على نحو ما ستؤسس له صفقة قرن الإدارة الأميركية الحالية . والله من وراء القصد .