شهدت جمهورية السودان العديد من الانقلابات العسكرية والثورات الشعبية، كان أولها الانقلاب العسكري عام 1958 بقيادة إبراهيم عبود حيث أطاح برئيس الوزراء السابق آنذاك عبدالله خليل، وتكرر المشهد مرةً أخرى، ولكن بصورة ثورة شعبية عام 1985 عندما أطاح الشعب بالرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري الذي حكم السودان ستة عشر عاماً، والتي تعتبر المدة الأطول بعد الرئيس السوداني عامر البشير، حيث قاد الأخير انقلاباً عسكرياً عام 1989 استطاع من خلاله الوصول لسدة الرئاسة، قبل أن يتم الإطاحة به من خلالِ انقلاب عسكري ناجح في الحادي عشر من نيسان 2019، نتيجة الانتفاضة الشعبية المطالِبة بإسقاطه.
ومن هنا نستطيع أن نستقرء من سقوط آخر زعماء الجماهيريات العربية الكبرى، وتنصيب العسكرتاريا أنفسهم زعيماً للدولة، والموافقة عليهم كزعيمٍ طويل الأمد، كغيرها من الدول العربية الساعية للتغيير بذريعة رفع القمع ومحاربة الفساد والفقر الذي ألمَّ بهم، والقبول بحكم الجنرالات، ما هو إلا عودة جديدة للرزوح تحت مظلة القمع والاستبداد، لا سيما وأن جميع التجارب الجماهيرية العربية المُسقَطة شكلاً من قبل العسكرتاريا، لم تحقق الغاية المرجوة من تغيير طبيعة نظام الحكم المطلق، بل زادت من فجوة القمع والتفرد بالقرار من خلال إكسابه الصفة الشرعية المتمخضة عن انتفاضة الشعوب.
إن جميع المتغيرات في النظم السياسية، سواء كانت انقلابية، أم ثورية ما هي إلا نتاج دوافع خارجية للمضي قدماً في تحقيق مصالحهم الإمبريالية، وإنتاج حراك قاريّ وإقليمي يحفز لاعبيه بالتفرد في تناولِ إرادة الشعوب كوجبة دسمة، وتصدير كمية كبيرة من الفوضى للداخل العربي، إلا أن هذه الفوضى الشرق أوسطية بطبيعة الحال تخدم النظام الأحادي القطبية والمتخرِصّة "للشعوب حق تقرير مصيرها".
أعتقد ان الإشكالية تكمن في كيفية خلق نظام سياسي سَويْ، يضمن مصلحة الشعوب في الدرجة الأولى لتحقيق النهضة والتطور في جميع المجالات، وفي مدى وعي الجمهور العربي في إيجاد سياسة داخلية من خلال إفراز نُخب سياسية وحزبية حقيقية تواجه المد العسكري المطيع جداً للجهات الخارجية، واجتثاث جذور الفساد المُقننْ، وعدم السماح للعسكر بممارسةِ دورٍ غير واجبهم الأمني، والاستفادة من تجارب الآخرين من الدول الصاعدة والتي باتت تتصارع فيما بينها على الزعامة الإقليمية.
ولكن هل تستطيع الجماهير العربية المُسقِطة للزعامات التقليدية، أن تسيطر على العسكرتاريا وخلق منهج نظامي سياسي مدرك لطبيعة التحولات في جميع المجالات، أم ستبقى تلعن الظلام؟
أعتقد أن الإجابة ستكون صعبة وتحتاج لوعي ونضال طويل، وتلطف العسكر أن يسمحوا بانتقال عدوى الوعي للشعوب العربية الأخرى سلمياً، للعيش بسلامٍ دون فقرٍ أو وجل.
*الكاتب باحث في العلاقات الدولية.