قدم الباحث الأردني الدكتور اياد قنيبي على قناته في منصة “يوتيوب “سلسلة حلقات متصلة أسماها “رحلة اليقين”، حيث أعدها بشكل جيد، وتوجه فيها إلى الشباب العربي الذي انفتح على أسئلة وأفكار ومباحث زعزعت إيمانه، وشتتت فكره، وأورثته حيرة وضياعا. وخصص الدكتور قنيبي ساعات طويلة في السلسلة لمناقشة نظرية التطور الداروينية القديمة والحديثة، وبذل جهدا كبيرا في إعداد وتدقيق المحتوى، وأجاد في العرض والخطاب للشرائح المخاطبة. وقد اختار قنيبي موقفا حديا من الداروينية، فرفضها جملة وتفصيلا “فجديدها غير صحيح، وصحيحها غير جديد”، وانتقد أيضا كل من حاول أن يوائم بين الداروينية والإيمان.
لم يحدث لأي نظرية علمية أن أقحمت في البحوث والدراسات الدينية والفلسفية والاجتماعية وتركت أثارا في الفكر السياسي والأخلاق كما حدث مع الداروينية، فقد ثار حولها جدل كبير لم يهدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر وإلى الآن، وشارك فيه علماء الأحياء والدين والفلسفة والآثار والكيمياء وغيرهم في الشرق والغرب لقرن ونصف القرن. وكان السجال فيها صاخبا منذ أن أطلقها مؤسسها، وما كان ينبغي لنظرية علمية أن ترد تلك الموارد ولا تبلغ هذا المدى، حتى أن الدكتور يلماز عرفان ألف كتابا أسماه ” “التطور نظرية علمية أم أيدولوجيا”.
هذا الاقحام المتسرع لنظرية داروين لم يخدم العلم ولا الدين ولا السياسة، وفضلا عن تطبيقاته الاجتماعية والسياسية فقد أدى الى شكل من التعصب في مجتمع العلماء والباحثين، حيث تم وصم المخالفين للداروينية بعبارات غير معتادة في أجواء البحث العلمي كوصف الدكتور دوكينز لمن يعارض النظرية “بالجهلة والأغبياء والحمقى”، وما وثقه فيلم “المطرودون” من حالات اضطهاد و”الحرمان الأكاديمي” لعدد من الباحثين المعترضين على نظرية داروين أو المدافعين عن “التصميم الذكي”، ومن الأمثلة الأخرى على صور الإضطهاد ما كتبه الدكتور ويلز الحاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في البيولوجيا الجزيئية على غلاف كتابه ” أيقونات أخرى للتطور” إذا ضبطت وأنت تقرأ الكتاب في الجامعة فسيُعاني مشوارك المهني من الاضطراب، لذلك أنصحك بإخفاء الكتاب تحت غلاف آخر”.
لقد درسنا وأسلافنا نظرية التطور وتحديثاتها في مراحل التعليم المختلفة، ونعرف أن نظرية التطور هي واحدة من الركائز الأساسية لعلم الأحياء المعاصر، وأنها تحظى بقبول واسع في الغرب والشرق في ظل غياب نظرية مكتملة منافسة. ولكننا نعلم أيضا أن كثيرا من شواهد وتفاصيل النظرية قد سقط علميا مع الزمن، وأن هناك اتفاقا حول وجود فجوات مهمة في النظرية لم تسد، وأسئلة كبيرة بقيت من دون إجابات، واعتراضات قوية لم تفند ومساحات الغموض تزداد ولا تتناقص. ومن يعرف قليلا عن تاريخ العلم يعلم أن الكثير من النظريات التي سيطرت على الفكر الإنساني لفترات طويلة من الزمن بقوة لا تقل عن قوة سيطرة نظرية التطور انتهت أو عدلت تعديلات جوهرية.
لقد ناقشت حلقات “رحلة اليقين” مباحث التطور الأساسية من الصدفة والأحافير وعلى رأسها الإنفجار الكامبري والكائنات الوسيطة والخلية الأولى وغيرها، وحشدت كما كبيرا من إخفاقات النظرية، لتخلص إلى أن النظرية هي مجرد خرافة.
في حين قدم باحثون آخرون على ذات المنصة مقاربات مغايرة، دافع بعضها عن النظرية بحماس، وحاول الأكثر أن يوفقوا بين النظرية وبين الإيمان، منطلقين من حاجة النظرية لسد ثغراتها، وتفسير ظواهر مثل الوظائف الحيوية للكائنات الحية، وانه لا بد من وجود “سبب ذكي” لظهور هذه الكائنات وبالتالي فإن التطور هو في حقيقته تطوير وتخليق وليس سلسلة من الصدف والانتخاب الطبيعي، وكذلك من حاجة المؤمنين إلى تجنب الاصطدام بنظريات علمية لها شواهدها ومؤيداتها.
الغد