في مثل هذا اليوم قبل 16 عاما, فاجأت منظمة التحرير شريكها الأردني وسائر العالم بتوقيع "إعلان مبادئ حول الترتيبات الانتقالية للحكم الذاتي" مع عدو الأمس, بهدف مقايضة "الأرض بالسلام" وإقامة دولة فلسطينية خلال خمس سنوات.
ذلك الاختراق الجانبي أختلس في أوسلو بينما أنظار العالم تتجه إلى واشنطن, حيث كانت تدور "معارك" العرب وإسرائيل على طاولة المفاوضات الأمريكية امتدادا لمؤتمر مدريد خريف .1991
الملك الراحل الحسين بن طلال تلقى نبأ أوسلو بغضب شديد وقرأ فيه تواطؤا على حساب الأردن بين الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ووزير خارجية إسرائيل آنذاك شيمون بيريز, ذلك أنه تضمن تنازلا مسبقا عن الحقوق التاريخية المشروعة للشعب الفلسطيني بما قد يؤثر سلبا على مملكته.
خيبة أمل الملك آنذاك لامست حدود التشكيك بالاتفاق الجانبي بعد أن ساهم شخصيا في إعادة تأهيل منظمة التحرير كشريك سلام وفتح الباب أمام مشاركة وفد فلسطيني تحت مظلة أردنية ضمن مسار مستقل في عملية سلام شامل انطلقت في مدريد على المسارات كافة.
وكان صانع القرار الأردني يتوجس من قيام تحالف جديد بين وزير الخارجية بيريز والفلسطينيين ضد عمان.
في خلفية المشهد آنذاك ثقة شبه معدومة بين الحسين و عرفات (توفي خريف 2004), بسبب التنافس التاريخي على أحقية تمثيل الفلسطينيين ورعاية الاماكن المقدسة. تلك الأجواء تواصلت بعد قرار قمة الرباط عام 1974 الذي اعترف بالمنظمة ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني.
لكن بعد ساعات من إعلان الاتفاق, قرّر الملك دعم عرفات مشفوعا بالتقاء جهود الأخير مع استراتيجية الأردن الداعمة لخيار السلام عبر التفاوض. ثم أمر بتسريع وتيرة المفاوضات الأردنية-الاسرائيلية بهدف التوصل الى معاهدة سلام ثنائية لحماية مصالح بلاده العليا في ملفات حيوية تتعلق بمستقبل اللاجئين, القدس والمياه وترسيم الحدود, ذلك أن المشهد العام كان يشي بقرب إبرام اتفاقات ثنائية على مختلف المسارات.
لإنجاح المفاوضات, استثمر الملك الراحل علاقته القائمة والثقة المتبادلة مع رئيس الوزراء آنذاك اسحق رابين, قائد جيش بلاده التوسعي في حرب ,1967 التي خسر فيها الأردن الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية.
وفي تشرين أول 1994 أضحى الأردن ثاني بلد عربي بعد مصر يوقع معاهدة سلام مع إسرائيل, على وقع عتب سوري وتشكيك من المعارضة الأردنية بقيادة الاسلاميين التي ما فتئت تحاول حتى اليوم إفشال الاتفاق ومنع التطبيع الشعبي عبر وسائل سلمية وديمقراطية.
الاتهامات بالتطبيع التي وجهها مجلس النقابات المهنية بحق أعضاء وفد صحفي يزور الضفة الغربية حاليا, تندرج ضمن تلك المحاذير, مع أن نقيب الصحفيين عبد الوهاب زغيلات نفى وجود شبهة تطبيع خلال جداله مع سائر النقباء.
المعاهدة اعترفت للأردن بدوره الخاص في رعاية الاماكن الدينية في القدس, كما ضمنت مساعدات عسكرية واقتصادية أمريكية. ورمّم أيضا علاقاته مع دول الخليج والعالم الغربي, والتي لامست حدود القطيعة بعد رفض الأردن الانضمام للتحالف العسكري الذي أخرج العراق من الكويت عام .1991
بعد عامين على معاهدة السلام اغتيل رابين على يد متشدد يهودي, فخسر الملك شريكا مهما في بناء السلام. خلفاء رابين لم يحترموا التزاماته في سياق بحثه عن "نتائج" لعملية التفاوض. حتّى شريكه في العمل بيريز أطلق رصاصة الرحمة على بذرة السلام. وهو ما فتئ يرفع شعارات خاوية لعملية سلام تدور في حلقات مفرغة بهدف شراء الوقت وفرض الأمر الواقع.
وتستمر معاناة الاردن مع الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة منذ .1995 فهي تغلّب استراتيجيتها التوسعية بما فيها تسريع وتيرة الاستيطان التي قضت على حلم قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للنمو والحياة, كما تستبدل إجراءات بناء الثقة بين اسرائيل والفلسطينيين بخطوات لهدم الثقة.
معاهدة 1994 كشفت ظهر الأردن بسبب غياب أفق السلام الشامل, سيما في بعده الفلسطيني الذي يلقي بظلاله على المشهد الداخلي بحكم تداخل التاريخ والجغرافيا والديمغرافيا والاقتصاد.
ومع مرور الأيام يتجلّى انغلاق نافذة فرصة السلام بسبب سلوك إسرائيل المناوئ لقيام دولة فلسطينية مستقلة وتنامي تشدّدها رسميا ورفض الشعوب العربية لإمكانية التعايش بسلام مع هذه الدولة.
فإسرائيل لن تقبل بأكثر من منح الفلسطينيين إدارة ذاتية لمن تسمهم بسكان الأراضي. وقد تبلور ذلك عمليا في السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة الرئيس الفتحاوي محمود عباس, والتي تتحمل أعباء المسؤوليات الأمنية والمالية والادارية لتسيير حياة الفلسطينيين بعد أن شطرت تداعيات اتفاق أوسلو فلسطينيي الداخل عن الشتات. ثم جاء فوز حماس الساحق في الانتخابات الأخيرة (2006) وتشكيل لجنة مركزية جديدة لحركة فتح في ختام مؤتمرها السادس, ليعكسا تراجع تمثيل الشتات لمصلحة فلسطينيي الضفة. قطاع غزة عزل عن الضفة وتمت محاصرة حماس هناك عبر التهدئة والهدنة.
وهكذا تحولت مسارات السلام إلى مطمطة ومضيعة للوقت بعيدا عن برامج عملية تفضي إلى سلام شامل.
في الأثناء, تمكنت إسرائيل من ابتلاع المزيد من الأراضي الفلسطينية لتوفير سكن لحوالي نصف مليون مستوطن, وإقامة جدار عازل سيتحول إلى حدود الدولة القادمة بين إسرائيل والأردن بدون قدس شرقية عاصمة لدولة فلسطين المنشودة مع إلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين مقابل الحصول على تعويضات مجزية وفتح أبواب الهجرة لهم أو إعطاء البعض خيار العودة الى الكيان الهزيل الذي وعد رئيس الوزراء سلام فياض بقيامه بعد عامين.
إذن لن يتحقق شعار الحل الشامل على أسس قيام دولة فلسطينية مستقلة تعيش بجانب إسرائيل لتحقيق حلم الأردن بحماية أمنه واستقراره. فإسرائيل لم تحترم السيادة الاردنية, ولا دور الأردن الخاص في رعاية المقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس الشرقية. والاتصالات بين الدولتين في غالبية الأحيان لا تتجاوز قناة التعاون الأمني.
مستقبلا سيبدأ الصدام الفلسطيني حول الهوية التي قسمت بين الداخل والخارج. فالداخل مقسوم بين شرعية حماس وفتح. ونصف من في الخارج قد يقبلون التعويض والتوطين والنصف الآخر سيفتح معركته مع فتح ومع من قبل بالتنازل عن حق العودة والتوطين.
قبل 16 عاما, طعن عرفات الأردن من الخلف عندما وقع اتفاق اوسلو, وعبّاس يواصل استغفال المملكة, إذ أحدثت الانتخابات التشريعية وما تمخض عن مؤتمر فتح السادس قطيعة غزاوية- ضفاوية وقطع بين الداخل والخارج.
أمام الأردن الآن خيارات محدودة. ولن يكون بوسعه سوى تشجيع جهود الرئيس الأمريكي باراك أوباما والطلب من الأوروبيين الضغط على إسرائيل حتى لا تستمر عملية وهم السلام.
الأيام المقبلة ستضع إرادة الإدارة الأمريكية على المحك. فالمنطقة تنتظر من مبعوث الرئيس الأمريكي الخاص جورج ميتشل, تصريحا رسميا يحدّد التزامات ومسؤوليات كل من إسرائيل, الفلسطينيين وسائر العرب. فهل ينجح ميتشل في آخر جولاته المكوكية في وضع إسرائيل عند حدّها? الجواب غير المشجع في البيت الأبيض والكابتول.0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
نقلا عن العرب اليوم