لم تعد لي طاقة لي على ازدحام الطرقات ولا على خوض مشاجرة مع أي كان مهما كان محترفا بالاستفزاز وجارحاً بالألفاظ. لقد كبرت.
أحداث سيئة لا تحصى صادفتني في حياتي، انطبعت في ذهني فكونت لدي صورة ضبابية للحياة، سلوكياتها، أخلاقها، خرافاتها، عقائدها، أحزانها وأفراحها، إلى غير ذلك. ربما كانت تلك الأحداث عاملا من عوامل حبي للعزلة بين الحين والآخر. ثم إن تلك الأحداث انعكست في طبيعتي، وكونت ما يظهر من شخصيتي، كإفراطي في جانب الجد، واستجابتي لعوامل الحزن أكثر من استجابتي لعوامل الفرح. ربحت وخسرت، عشت الطفولة والمراهقة، والصبا والشباب، الحب والخيبة، الخوف والقوة، الصبر والحكمة والسلطة والسجن. وعن سجن العيب والحرام والعادات والتقاليد أتحدث! شهدت ولادة أرواح وعقول، كما شهدت فناء أرواح سكنتني، واحتضار مدن سكنتها. خذلني الأمل بقادمٍ جميل وأحبطني عدم اليقين. نطق لساني بلهجات عدة انتميت لها وولدت منها. أجدت عدة لغات؛ الفرح والحب والعطف والحزن والفراق والإنكسار وحتى لغة الصمت .
ينبغي أن أقول بأنني عشت كل تلك المتناقضات لأدرك بأن لي لغة خاصة غير كل تلك اللغات. فأتقنت الإستماع لتراتيل الضاد بخشوع عابدة. وتعلمت كيف يكون استراق اللحظات بين السطور حميميا. وأصبحت أرى ليلي بعيون الفجر. وأيقنت؛ بأن الشعور بما يسمى بالإكتئاب ما هو إلا ظمأ أرواحنا لأننا لم نعد أطفالاً، وضاعت منا الحقيقة. والحقيقة شقيقة الموت في الليالي الجارحة.
لكن لا بأس عليك، كن حقيقيا، واقبل أن تكون هديتك في يوم ميلادك شهادة فرح أو حزن أو مرض أو فراق أو حتى شهادة وفاة. كن حقيقيا وتوسّد ظلك، ولكن إياك أن تتكبد عناء التفكير بقبول شهادة تقول "أنك رائع، بيد أن صدر الدنيا بك ضاق" فتلك شهادة ليست جديرة بالقراءة، صدقني.
كن حقيقيا، واعترف أنك لا تمتلك سوى حق الرحيل، أما حق العودة فما هو إلا عنوان نص لاذع بُنِيَ للتعبير عن هشاشة قلبك، فقط.
كن حقيقيا، وامض بأحلامك يسارية كانت أم يمينية، فالإتجاهات محض لفظة رائجة تلائم الخرائط وإشارات المرور وجهاز الجي بي إس فقط، ولا تنسجم مع الأحلام أبداً. ولا تسمح لخساراتك أن تتعدى حبة دواء للحفاظ على مستوى ضغطك ضمن معدله الطبيعي.
كن حقيقيا، وحارب الالتباس في أغنية فيروز "لما عالباب يا حبيبي منتودع...وبخاف تودعني و تفل و ما ترجع "،، واعترف أن ثمة علاقة -حقيقية أيضا- بين الباب والخوف من لحظة الوداع، وهي لحظة تساوي عمرا في قياس السنين. قد يغيب عنها اللحن والكلمات كما غاب شاعرها، ولكن تبقى نشوة الشعور بحقيقتها وجمالها، رغم قسوتها.
كن حقيقيا، واشعر بفداحة المسؤولية عند المقارنة بين أداء شون بين في فيلم The professor and the man وأداء رامي مالك في فيلم bohemian rhapsody، على الرغم من براعة مالك في تجسيد شخصية فريدي ميركوري وبرغم الأوسكار التي استحقها، إلا إنها مقارنة جوفاء وجائرة.
كن حقيقيا، ولا تتلكأ في فراشك، فقد تكون على موعد مع الحياة وقصيدة بكر. ولا تندم على شيء ما دمت قادرا على الحب والحنين... وأرجوك سلم لي على عمّان، حارسة أحلامي، إن مررت بها. عانقها وأخبرها أن لها من قلبي دمعة شوق ولهفة وتلويحة...