بالأمس أنهت الأرض دورتها السادسة عشرة حول الشمس منذ "سقوط بغداد".
وبالأمس البعيد، قبل نحو ستة عشر عاما، كنت مقيما في أحد فنادق البصرة، أنتظر سيارة الأجرة التي سوف أستقلها لأغادر بها البصرة عائدا إلى عمان، بعدما أنهيت الإجراءات اارسمية اللازمة للحصول على الشهادة الجامعية، في الأثناء فوجئت لا بل صدمت بالجنود البريطانيين يحيطون بالفندق من كل صوب وحدب، ولما نزلت من غرفتي لل"إستقبال" لأستفسر عما يجري، إذا بجندي بريطاني موجها سلاحه نحوي يطلب مني أن أجلس القرفصاء، بحيث يكون الحائط خلف ظهري.
لنحو الساعة وأنا على هذه الحال، وأي حال؟
في الساعة هذه عرفت معنى "سقوط بغداد". أدركت ماهية "الإحتلال". ولأول مرة، إلتقيت ب"الذل" وجها لوجه. وتم آنذاك اللقاء الأول بيني وبين "الإهانة".
وعلى مدار الساعة هذه، تجاذبت أطراف الحديث مع الذكريات. وكان الحديث عميقا بعمق حضارات وادي الرافدين عن شعوري الطفولي بالزهو والكبرياء حين بث التلفاز الأردني في إحدى نشراته الإخبارية خبر إنتصار العراق على إيران. وكان الحديث متشعبا بتشعبات التاريخ في بلاد ما بين النهرين عن فرحتي المراهقية العارمة عندما كان يتناهى إلى مسامعي أن صاروخا عراقيا دك مداميك أوهام العدو الصهيوني. كان الحديث طويلا بطول نهر الفرات عن الصور التي كانت تبثها شبكات التلفزة للحظات إسقاط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس الشهيرة في بغداد.
وفجأة قاطع الجندي البريطاني حديثي مع الذكريات، وسألني: أأنت أردني؟ أجبته: نعم. فقال لي متسائلا: لم لم تخبرني؟ إستولى الصمت علي. تابع حديثه قائلا: لقد كنت في الأردن في عيد الميلاد الماضي. لم أنبس ببنت شفة. فقال لي: يبدو أنك غاضب، ثم طلب مني جواز سفري، في الأثناء إلتقط لي أحد زملائه صورة، أعاد لي جواز سفري قائلا: أنا آسف لما جرى لك، بإمكانك الذهاب.
علمت فيما بعد أن معلومات وصلت لجيش الإحتلال البريطاني تفيد بوجود صدام حسين في ذلك الفندق.
في كل مرة تدور الأرض دورتها النيسانية التاسعة حول نفسها، تدور بي دائرة الذكريات في أفلاك هذه الحادثة التي دار خلالها العقرب الأكبر ستين دورة. وأتساءل: هل من حكمة أن يحدث معي ما حدث في آخر ساعة لي في البصرة؟ أم أنها الصدفة؟ أم ثمة رسالة لي من "المجهول" لغاية في نفسه لم أدركها بعد؟
لربما كان الحب الفطري بيني وبين العراق هو الإجابة اللاشعورية لهذه التساؤلات.
ولعلني لا أغالي إذا ما قلت أن ثمة رابط فطري بين الأردني والعراقي، وهذا الرابط الفطري نموذج مصغر للعلاقة التاريخية الوطيدة بين الأردن والعراق. ومن هنا، وباستنساخ مجازي لنظرية التشابه في الفيزياء، يمكن فهم حديث الملك عن "واجبنا كعرب نفتح أبواب العراق على باقي الدول العرببة" حين إلتقى بعدد من المسؤولين السياسيين والإعلاميين قبل أيام.
العراق معزول نوعا ما عن محيطه العربي، وفتح أبوابه على مصراعي كل منها على الأقطار العربية قد يعني بصورة ما أو أخرى محاولة لا بأس بها لسحب بساط السيطرة عليه من تحت أقدام" الفرس".
وإذا ما نجحت هذه المحاولة، فإن مشروع "تفريس" الهلال الخصيب سيتلقى أول ضربة قد تكون القاضية له.
وإذا أخذنا بعين الإعتبار أن الأردن كان من أوائل الأقطار العربية التي أعادت فتح سفارتها في بغداد بعد وقوعها فريسة أنياب الغزو الأميركي البريطاني المتصهين، وأن الملك كان أول من زار بغداد من بين الزعماء العرب، فإن حديث الملك عن واجب فتح أبواب الأقطار العربية الموصودة في وجه العراق، يمكن تصوره ضمن أستراتيجية طويلة المدى تنفذها السياسة الخارجية الأردنية منذ نحو ستة عشر ربيعا من الزمان تهدف في المقام الأول إلى الحفاظ على الوشائج العميقة ما بين العراق والأردن على كافة الصعد وفي مختلف المجالات، بغض النظر عن مستوى التلوث السياسي في أجواء المنطقة.
على هامش المقال
نقرأ في كتاب "فرصتنا الأخيرة، السعي نحو السلام في زمن الخطر" لمؤلفه الملك عبدالله الثاني إبن الحسين، ص362:
"في الأيام القليلة السابقة للإنتخابات أظهر عملاء إيران تصميما على التأثير في النتائج، فرفعوا وتيرة دعمهم للأحزاب الشيعية المتحالفة مع إيران بالمال والموارد الأخرى. كان واضحا أن إتساع رقعة النفوذ الإيراني في العراق، حيث تنتشر القوات الأميركية في كل أنحاء البلاد، يمكن أن يخدم مصلحة إيران إلى أبعد الحدود في أية مواجهة يمكن أن تقع بين هذه الأخيرة والولايات المتحدة في المستقبل".