في العام 2004 قدّم الكاتب الأميركي، رالف كييس، في كتابه The Post-Truth Era عصر ما بعد الحقيقة: التضليل والخداع في الحياة المعاصر. قدّم رؤيته حول التحولات التي برزت في سلوك الأفراد لناحية تحوّل ما أسماه سلوك التضليل العفوي Casual Dishonesty الى وباء تجسّدت ملامحه جلية في عصر "ما بعد الحقيقة أو ما وراء الحقيقة"، حيث صارت الحدود ضبابية بين الحقيقة والكذب والصدق وخيانة الأمانة والخيال والواقع، بل وأصبح خداع الأخرين تحدياً و لعبة عابرة للقارات، وتحوّل هذا لخداع في النهاية إلى عادة تغلغلت داخل النسيج الاجتماعي كله.
المواطن العادي بات يروي الأكاذيب على نحو يومي دون أن يرفّ له جفن، أصبح الكذب عنده مباحاً ما دام يخدم مصلحته ويلبي حاجته، حتى وإن ضُبط متلبساً به. أصبحنا نعيش في واقع ما فوق المزيف وأكثر من الخداع وما وراء الإمعان في الكذب في زمن يشهد ويا للعجب، ثورة في تكنولوجيا المعرفة ووسائل الإعلام والتواصل ما يفترض معها أن تكون عناصر مساعدة في تبليغ الأخبار والحقائق طريّة وطازجة وطبق الأصل إلى الجمهور، وليس نقيضاً كما يحدث حاليا.
يبين "كيس" أن البشر قد كذّبوا في الماضي، لكنه يشير باندهاش إلى الجيل الحالي من الكذابين المهرة وما لهم من دقة في الكذب الذي هو غير مسبوق تقريبا في تجربة الإنسان. ذلك لأن مفهوم العار والشعور بالذنب الذي يصيب الكاذب قد اختفى ولم يعد مهماً، كما لاحظ " أن الناس أذكى من ذي قبل، فهم باتوا يمتلكون المبررات للتلاعب بالحقيقة حتى يتمكنوا من التخلص من الذنب ". أي بمعنى آخر أنهم يعيدون صياغة قيمهم. فعلى سبيل المثال قول" لم أكن صادقا" أو لم يحالفني الحظ في أن أقول الحقيقة، أفضل من أن أقول كذبت". وهذه العبارات أصبحت متلازمة ثقافية جديدة تدعم وتقوي ما وراء الحقائق.
وفي عام 2005، ظهر علينا الأمريكي ستيفن كولبيرت بكلمة تتعلق بالمفهوم نفسه مفهوم ما بعد الحقيقة، هذه الكلمة هي " المصداقية" Credibility وتعني الإيحاء بالصدق حتى لو لم يكن صادقا. ويرى ان من تداعيات هذه اللفظة أن أصبح الخداع شائعا على جميع مستويات الحياة المعاصرة. وأن الخداع أصبح الآن مؤسسيا في كل المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية ... وما نراه اليوم من صور الفساد وارتفاع نسبة انتشار خيانة الأمانة بين الناس ما هو الا نتيجة حتمية لحياة ما بعد الحقيقة التي نعيشها.
الناس اليوم يختارون بمحض ارادتهم وحريتهم العيش في عالم ما بعد الحقيقة، عالم الأكاذيب والخطابات العاطفية والشعبوية والاخبار المزيفة التي تتضاعف كل يوم على حساب الحقائق نفسها، أصبحنا نعيش اليوم على وقع ما أسماه أفلاطون "الأكاذيب النبيلة" نقوم بتهذيبها وتعديلها وتنقيحها كي تتوافق مع الزمن الراهن ومصالحنا وعواطفنا ومشاعرنا، المسألة أصبحت أكبر من مجرد كذب عادي صرنا نفتقد إلى المعايير التي يمكن أن نقيّم بها الأمور، ما جعلنا نختار أن نرى الفضيلة في التفاهة والسلام في الحرب والقوة في الجهل والبلطجة والحرية في الثرثرة والخطابات الشعبوية على وسائل التواصل الاجتماعي والتي تؤجج العواطف والمخاوف، ونطبق هذه الفلسفة على كل مظاهر حياتنا.
في هذا الوقت الذي تراجع فيه دور الحقيقة، نحن بحاجة ماسّة إلى بناء مناعة أخلاقية ومجتمعية تقاوم موجات الأخبار الكاذبة والتضليل والخداع والاستعداد إلى عالم ما بعد الحقيقة كي لا يربح التافهون المعركة!