تأخذ الانتخابات لدينا أبعاداً كثيرة غير حميدة تمس أمن المجتمعات بعيداً عن جوهرها ومقاصدها الحقيقية، بحيث تؤدي أحياناً إلى شروخات اجتماعية واسعة وتمس الوحدة الوطنية لمجتمعاتنا، وتؤدي إلى جملة من الآثار العميقة التي تحتاج إلى سنوات طويلة لمعالجتها، وفي كثير من الأحيان يصعب معالجتها ولا تلتئم جراحاتها، ويعود ذلك إلى جملة من الأسباب والعوامل التي تتعلق بثقافة سائدة حول هذه القضايا، وهناك أسباب تعود إلى قضايا أيدولوجية غير صحيحة.
لقد سمعت أحد المعلقين على نتائج الانتخابات البلدية في تركيا يقول : ( غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين .. )، تعقيباً على خسارة حزب العدالة والتنمية في بلدتي أنقرة واسطنبول الذي استفرد بإدارتها ردحاً طويلاً من الزمن، مما جعل النتائج تأخذ أبعاداً واسعة في التقويم لدى الاتجاهات السياسية والفكرية في العالم العربي والإسلامي وليس في تركيا لوحدها.
وهنا لابد من الإشارة إلى جملة من التوضيحات نحو آفاق الديمقراطية بطريقة آمنة بعيداً عن الآثار غير المحمودة في مسألة التعامل مع نتائج صناديق الاقتراع .
الإشارة الأولى : أن الانتخابات في جوهر فكرها تمثل وسيلة للتعبير عن الإرادة الشعبية في اختيار صاحب المسؤولية، استناداً إلى أن الشعب مصدر السلطة، وهو الذي يمنح الشرعية لصاحب المسؤولية في إدارة الشأن العام، والاختيار يتم بين أفراد الشعب الواحد الذي يمثل ركن الدولة، وجميع الأفراد أمام ممارسة هذا الحق سواء، ولذلك فإن كل المرشحين ينتسبون إلى شعب واحد ودولة واحدة، ولهم دستور واحد وقانون واحد، ويجمعهم الانتماء للوطن والمستقبل والمصير، فالانتخابات ليست معركة بين فريقين متحاربين ، وإنما أداة للفصل بين المتنافسين بطريقة سلمية ديمقراطية أخوية، وعلى جميع الأطراف تقبل النتيجة بصدر رحب.
الإشارة الثانية : الانتخابات ليست أداة لابعاد طرف واقصائه وتهميشه وتحجيمه وتأديبه وانهائه من الحياة السياسية من طرف آخر، بل الأصل في الانتخابات أنها وسيلة للتعاون والمشاركة في تحمل المسؤولية، والمشاركة في خدمة المواطنين وحماية مقدراتهم وحفظ حقوقهم وصيانة حرياتهم جميعاً لأن السلطة ليست مكرسة لخدمة فئة على حساب فئة .
الإشارة الثالثة : الانتخابات ليست فيصلاً بين الكفر والإيمان ولا بين الأمناء والأوفياء من جهة والخونة والعملاء من الجهة الأخرى، وليست مفاضلة بين الأديان والمذاهب والاتجاهات الأيدولوجية والفكرية والعرقية والجهوية والطائفية، وإنما الانتخابات تعد مفاضلة بين البرامج، ومفاضلة بين أصحاب الكفاءة والقدرة والقوة على تحمل المسؤولية والقيام بواجب الخدمة العامة .
الإشارة الرابعة : ينبغي إعادة النظر في كيفية التعامل مع الشأن الانتخابي عندنا في كل المجالات البرلمانية والبلدية والنقابية، بحيث لايجوز استخدام الدين أو المذهب أو الانتماء العرقي أو الجهوي في عملية الاختيار، وبمعنى آخر لا يجوز استخدام إثارة العواطف الدينية وكل أشكال التعصب في تجميع الأصوات وحشد الناخبين واشعارهم بالألم أحياناً أو الخيانة أحياناً أخرى اذا انتخب من خارج قائمتهم ، بل يجب اعتماد معايير الكفاءة والقوة فقط في الاختيار، ويتوجب على ذلك التعامل مع النتائج بالرّوح نفسها، وضرورة الخضوع لقاعدة الانتماء للدولة الواحدة والشعب الواحد بعيداً عن أشكال إثارة النعرات التفريقية بكل أشكالها والوانها وأسبابها والابقاء على جذوة التنافس مشتعلة بين البرامج، وضرورة التمايز والمفاضلة القائمة على تقديم الخدمة الأفضل من قبل الأشخاص والأفكار .
الدستور