صحيح ان التاريخ لا يسير في خطوط مستقيمة تصاعدا او تنازلا وقد لا يتكرر تماما، لكن الصحيح ان وقائعه واحداثه تتشابه وتتطابق لدرجة ان وعينا على التاريخ قد يسعفنا في فهم سيرورة واقعنا ومآلات حاضرنا ايضا.
لا اريد هنا ان انكأ جراحنا التاريخية، فهي داميه اكثر مما نتخيل، لكن ما يحدث اليوم في واقعنا يبدو اسوأ، يكفي فقط ان اشير الى «فاصلة» واحدة شكلت ثنائية «بائسة» في عالمنا العربي وهي « الهزيمة والغنيمة»، وما تزال تتكرر بذات الطعم والنتيجة ايضا .
نعم، قصة » الغنيمة » في تاريخنا غريبة، والدرس الذي تلقيه علينا - كذلك - أغرب، فلقد بدأت أولى هزائمنا بسبب الغنيمة، ولقد وقفنا مرغمين - عند آخر مدى وصلت إليه فتوحاتنا، بسبب الغنيمة - كذلك ،فقصة الغنيمة .. هي قصة الهزيمة في تاريخنا الذي تحول الى تراجيديا ملهمة . اذا ستسألني كيف؟ سأعيدك الى بعض الوقائع والاحداث.
خذ مثلا من بداية السطر في تاريخنا الاسلامي، حيث يوم السبت السابع من شهر شوال في العام الثالث للهجرة، كان قائد المعركة الأولى هو الرسول عليه الصلاة والسلام .. كادت المواجهة ان تنتهي بانتصار المسلمين، لكن فجأة خالف الرماة أمر النبي بالوقوف ثابتين على قمة الجبل، ربما خافوا من أن تضيع فرصتهم في الغنيمة .. فكانت » أحد » وشهد الجبل العظيم استشهاد سبعين رجلا من خيرة جنود المسلمين .. بسبب الغنيمة .
خذ مثلا آخر، قائد المعركة الأخيرة « عبدالرحمن الغافقي » آخر مسلم قاد جيشا منظما لاجتياز جبال البرانس، ولفتح فرنسا، وللتوغل - بعد ذلك - في قلب أوروبا ، بعد معركة طاحنة في 2 رمضان 114هـ الموافق 26 من أكتوبر 732م، بين المسلمين والفرنجة بقيادة «شارل مارتل»، انتهت المعركة آنذاك، وهزم الغافقي ، و سقط شهيدا في ساحة » بلاط الشهداء » إحدى معارك التاريخ الخالدة الفاصلة .. وتداعت أحلام المسلمين في فتح أوروبا، وطووا صفحتهم في هذا الطريق .. وكان ذلك لنفس السبب الذي استفتحنا به دروس الهزيمة .. أعني بسبب الغنيمة .
هكذا اذن انتهت دولة بني امية في الاندلس بعد ثلاثة قرون، مثلما انتهت دولة بني عباس بعدها، وصولا الى افول دولة بني عثمان اخر الخلافات الاسلامية، اما لماذا فبسبب البحث عن الغنيمة، والغنيمة هنا ليست مجرد «فيئ « يتبقى مما يتركة الجنود، ولا ارضا جديدة يمكن الاستيلاء عليها بعد الانتصار، وانما احساس داخي بالبحث عن اي شي يسد جوع الانسان وشهوته لابتلاع ما حوله ، الغنيمة كما نراها اليوم تربعت على كراسي السياسة كما تغلغلت في مجالات الدين والبزنس، حتى اصبحت الآمر الناهي لحركة «الفاعلين « في حياتنا العامة كلها .
يذكرنا المؤرخ المصري المرحوم عبدالحليم عباس في كتابه (سقوط 30 دولة اسلامية) بانه حين نذهب إلى التاريخ يجب ان نتلقى منه تلقي التلميذ المتعلم، وليس تلقي التلميذ المتحجر المكابر، اذا فعلت ذلك سيروعك أنك تقرأ نفسك ومجتمعك وأحداث عصرك في بعض صفحاته، وتكاد تحس بأن ما يدور حولك ليس إلا آخر طبعة من كتاب التاريخ، وأن الذين يظنون أنفسهم آخر حلقات التاريخ - أي أفضلها - أو يظنون أنفسهم خارج دائرة التاريخ .. هؤلاء وأولئك قوم مخدوعون، يمتازون بالغباء الشديد والسذاجة المفرطة .
صحيح، قصة خروجنا من الأندلس لم تكن قصة عدو قوي انتصر علينا بقدر ما كانت قصة هزيمتنا أمام أنفسنا .. قصة ضياعنا وأكلنا بعضنا بعضا كما تأكل الحيوانات المنقرضة بعضها بعضا ، ثلاثون دولة سقطت،لكن كيف؟ لكل سقوط اسبابه –يقول عويس- حين تستعين بعدوك التاريخي وتفقد القدرة على الرؤية الصحيحة .. فلا ضير في أن تموت ..
لا ادري اذا كان بمقدورنا اليوم ان نستعيد بعض هذه الاوراق الذابلة من تاريخنا لكي نكتشف ما فعلناه بانفسنا وما سمحنا للآخر ان يفعله بنا بعد ان تهيأت قابليتنا لاستقبال ما يريده دون ان نجرؤ على ان نقول: لا.
الدستور