في العام 1219 ،كانت الجیوش الصلیبیة تحاصر دمیاط عندما جاء راھب زائر یرید أن یعبر الخطوط لمقابلة ملك المسلمین، وعبثا حاول قادة الحملة (الخامسة) إقناعھ بالعدول عن مغامرتھ ولم یستمع لتحذیراتھم بأن أولئك ”المتوحشین“ سیقتلونھ حالما یظفرون بھ، وما حصل أن الملك الكامل الأخ الأكبر لصلاح الدین الأیوبي استقبل الراھب بالود والترحاب ودارت بینھما حوارات وأخذه في جولة على جنوده وشاھد صلاتھم واستمع للأذان وأخذ انطباعا جمیلا عاد بھ مع عرض سلام من الملك الكامل.
لكن قادة الحملة أصروا على متابعة حربھم لاحتلال مصر والمعروف أنھا آلت الى فشل ذریع. ھذا بینما أخذ الراھب الذي یكره الحرب ویدعو الى السلام كتابا من الملك الكامل یأذن لھ بزیارة الأراضي المقدسة في فلسطین؛ حیث أنشأ رھبانیة الآباء الفرنسیسكان وھي امتداد للرھبنة التي بدأ بإنشائھا قبل ذلك بعشر سنوات في قریتھ أسیزي التي ستحظى بشھرة عالمیة بصفتھا مقر ومنطلق تلك الرھبانیة الممیزة التي قامت على التقشف والبساطة والتواضع والمحبة وخدمة الفقراء، وأخذت اسمھا من اسم مؤسسھا الراھب فرنسیس ”فرانشسكو دي أسیزي“ ابن العائلة الثریة الذي قرر في لحظة معینة اعتزال حیاة الترف والتحول الى الرھبنة في دیر في قریتھ برؤیة مختلفة عن السلطة الكنسیة التي انجرفت الى مظاھر العظمة والسطوة والثراء فصرف مالھ على إسكان أتباعھ الفقراء متخذا لباسا بسیطا خشنا أصبح الزي المعروف للرھبنة وھو سیرسم قدیسا بعد ذلك بأكثر من قرن على ید البابا كلمنت السادس.
انتھت الحروب الصلیبیة وزال وجود الفرنجة في الأراضي المقدسة وبقیت رھبانیة الفرنسیسكان. وفي مقابلة مع الأب إبراھیم أحد أعضاء الرھبانیة في القدس، قال نحن موجودون ھنا منذ 800 سنة وخلال ھذه القرون مرت حروب وإمبراطوریات وكلھا فشلت، ونحن ما نزال ھنا نحمي المقدسات ونخدم الناس، وعندما حاولت إسرائیل اجتیاح بیت لحم كنا نقود الصفوف ونقود الشباب دفاعا عن الكنیسة المقدسة، وتم حصارنا من جانب إسرائیل لمدة 39 یوما، وكان لدینا حوالي 240 شابا بداخل الكنیسة قمنا بحمایتھم.
ھذا العام، تم الاحتفال من قبل الكنیسة الكاثولیكیة بمرور ثمانمائة عام على اللقاء الأسطوري بین الملك الكامل والراھب القدیس داعیة المحبة والسلام صدیق الفقراء والناس البسطاء.ّ
وھذا العام وقبل أیام، استقبلت أسیزي بلدة الراھب القدیس ومقر الرھبنة العریقة ملك الأردن عبدالله الثاني ابن الحسین لتسلیمھ ”مصباح السلام“ في كاتدرائیة القدیس فرانسیس في القریة الجبلیة الجمیلة في مقاطعة أومبریا شمال روما. لعلھا صدفة ھذا التزامن لكنھا صدفة محملة بالإیحاءات، وقد تسلم جلالة الملك المصباح من حاملھ عن العام الماضي المستشارة الألمانیة انجیلا میركل، وقد منح لھا لموقفھا الممیز داخل أوروبا تجاه قضیة اللاجئین السوریین. وموقف الأردن من اللاجئین كان أیضا من بین الأسباب التي ذكرت لمنح ملك الأردن الجائزة؛ فالأردن احتضن وقدم الرعایة الدافئة لعدد من اللاجئین السوریین یعادل نسبة لسكانھ استقبال إیطالیا أكثر من أربعة ملایین لاجئ، كما قال رئیس الوزراء الإیطالي في الاحتفال الذي استضاف 212 طفلا من شتى أنحاء العالم. وطبعا الى جانب أسباب أساسیة أخرى مثل دور الملك المحوري في دعم الوئام بین الأدیان وقیم التسامح والتعایش ونبذ التطرف ومكافحة الإرھاب واحترام حقوق الإنسان.
من جانبھ، لم یترك الملك المنبر والمناسبة المتاحة من دون أن یستثمرھا للتركیز على قضیة القدس والالتزام الشخصي الذي تفرضھ الوصایة الھاشمیة علیھ لحمایتھا، مكررا التأكید أن مستقبل الأمن والسلام معلق على الحل العادل للصراع الأساسي في المنطقة بقیام الدولة الفلسطینیة وعاصمتھا القدس الشرقیة على حدود الرابع من حزیران.
الغد