تتجلى أبهى صور الخصام الحكومي عامة واعضاء الطاقم الاقتصادي خاصة بين وزيري المالية والتخطيط, وبات واضحا للجميع ان العلاقة بين الاثنين وصلت الى طريق مسدود علما بأنها كانت كذلك حتى قبل التعديل الوزاري الاخير.
تاريخيا طالما كانت وزارتا المالية والتخطيط في صراع مستمر حول السياسات الاقتصادية بسبب الطبيعة المتناقضة لعملهما, فالتخطيط تسعى للانفاق والمالية تسعى لضبطه والسيطرة على العجز, لكن الخلاف كان دائما مؤسسيا ولا يؤثر على العمل العام, الا ان ما نشاهده اليوم هو تهرب من مسؤولية العمل العام, بدلا من الجلوس للحوار والتفاهم لمعالجة الوضع المتأزم في ظل ازمة ما زالت الحكومة تتخبط في فهم تداعياتها.
الوزيران المتخاصمان في مجلس الوزراء انتقلت خلافاتهما الى وسائل الاعلام مؤخرا في تصريحات غير مباشرة على لسان مسؤولين او مصادر مسؤولة داخل الوزارتين , يحّمل كل منهما الآخر مسؤولية الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه الاقتصاد الاردني خاصة فيما يتعلق بعجز الموازنة المتنامي, كان آخرها تصريح امين عام وزارة المالية امس في الزميلة الدستور حول عدم وجود بوادر ايجابية للحصول على مساعدات اضافية جديدة.
على أية حال الوزيران متشابهان في عدة جوانب اساسية لعل ابرزها انهما الاثنين معا لم يخدما في الدولة قبل توليهما منصبهما باستثناء عضويات في بعض الادارات والمجالس, حيث قدما للمنصب من القطاع الخاص بمعنى انهما ليسا من الجهاز التكنوقراطي, كما انهما ليسا مسيسين او منخرطين في الحياة العامة او الحزبية وبالتالي لا يوجد برنامج عمل مسبق لهما باستثناء مبادرتهما الشخصية.
لكن هناك فرق بين الوزيرين في الية تعاملهما في الشأن العام وتعاطيهما مع المنصب, فالوزيرة سهير العلي اعادت لوزارة التخطيط حضورها القانوني والطبيعي داخل جسم الدولة وبين المؤسسات الرسمية بعد ان كانت تلك الوزارة وعلى يد وزيرها السابق باسم عوض الله تشكل "بعبعا " في مجلس الوزراء, وتتغول على صلاحيات الوزارات الاخرى وباتت محورا رئيسيا لنشاط الدولة.
وبخصوص المساعدات الخارجية فهذه ليست وظيفة وزارة التخطيط, فالكل يعلم ان المنح تأتي للمملكة نتيجة العلاقات السياسية للاردن مع الدول المانحة لا نتيجة وجود وزير تخطيط معين, وتقديراتها في الموازنة هي مسؤولية وزير المالية تحديدا, لانه صاحب الولاية الدستورية في تنفيذ بنود الموازنة, والمادة 4 من قانون الموازنة تمنح وزير المالية صلاحيات عدم الانفاق على اي مشاريع مرصود لها اموال من المساعدات قبل ان تأتي.
للأسف وزير المالية الحالي باسم السالم لغاية يومنا هذا غير مدرك لتحقيق الازمة الاقتصادية التي يعاني منها الاقتصاد الوطني وان مشكلة الخزينة هي مزمنة تتطلب اصلاحا جذريا, فالاقتصاد الاردني وبعيدا عن الازمة المالية العالمية الراهنة يعاني اصلا من اختلالات جسيمة تتمثل في مديونية عالية وعجز مالي وتجاري كبيرين واعتماد متزايد على المنح في تمويل المشاريع, وبدلا من التصدي لتلك المعضلات قضى وقته هو والحكومة في اعداد مشروع قانون للضريبة لم يكن مقنعا لاي شريحة في المجتمع وتم نسفه في الدورة الاستثنائية.
وزارة التخطيط تذهب للمانحين بعد ان يتم تحديد مشاريع لها تحتاج الى تمويل من قبل الوزارات الاخرى, مثلا وزارة المالية وحتى تسدد جزءا من عجز الموازنة تسعى الان لاقتراض 300 مليون دولار من البنك الدولي يأتي دور التخطيط في المفاوضات مع المؤسسة الدولية لابرام اتفاقية القرض.
وزير المالية مطالب بالدفاع عن موازنته التي هو مسؤول عنها بالتحديد, فهو كان بالفريق الوزاري الاقتصادي قبل التعديل الذي اقر الموازنة, وقد استلم مهام منصبه الجديد "المالية" بداية العام, اي في وقت يسمح له باعادة تشكيلها وتقديرها ان اكتشف مبالغة في ارقامها , لا ان يأتي علينا منذ اليوم الاول لتوليه منصبه ويقول هناك ازمة اقتصادية ونسعى لاقتراض مليار دينار لهذا العام, على اعتبار ان هذا حل سريع لازمة الموازنة التي تتطلب فكرا في التعاطي مع مؤشراتها.
جردة الحساب يجب ان توجه للمالية لا للتخطيط فيما يتعلق بالموازنة, على وزير المالية ان يقول للشارع العام كيف تعامل مع الازمة, وما هي مبرراته في مواصلة الاقتراضين الداخلي والخارجي ووصول المديونية الى مستويات قياسية(9.3 مليار دينار) ?, وما هي مبرراته في تنامي العجز على المقدر بنسبة تجاوزت ال¯ 40 بالمئة (1.1 مليار دينار)?, وكيف سيواجه حالة التباطؤ الاقتصادي ? وما هي وسائل التحفيز التي يملكها لانعاش القطاعات التي دخلت في حالة ركود, وكيف سيعد موازنة 2010 مع تراجع الايرادات الضريبية والتدفقات الاستثمارية ?, والاهم من ذلك كله كيف سيوفر مخصصات شبكة الامان الاجتماعي ويزيد رواتب العاملين والمتقاعدين خاصة اذا ما عاد كابوس اسعار النفط والمواد الاساسية من جديد, مع وجود مؤشرات تدل على ان مستويات الاسعار ستعاود الارتفاع بشكل تدريجي خلال الاشهر المقبلة.
الوقت ليس ملائما للعتاب بين الوزراء, ومن المنطق ان يبعدوا خلافاتهم الشخصية التي ليس لها اي معنى بالنسبة للشارع العام عن ادارة الاقتصاد الوطني والتصدي للازمة وتداعياتها والبحث عن حلول والارتقاء بمسؤوليات المنصب العام واعادة الاعتبار للوظيفة الرسمية التي تبقى في النهاية تكليفا لا تشريفا والله من وراء القصد.0
salamah.darawi@gmail.com