منذ سنوات - قليلة عددا كثيرة ألما وإيلاما - والشعب الأردني كله لا يألو جهدا في التعبير عن رفض ما يسمى "اتفاقية الغاز" مع العدو الصهيوني المقيت، وبكل وسيلة سلمية سليمة شرعية ممكنة. لقد رفضها الشعب بمجمله، ورفضها ممثلو الشعب، ورفضتها النقابات المهنية كلها ودون استثناء. ولقد جاء الرفض بأعلى الأصوات وأوضح العبارات وأصدقها وأرقاها. ورفضتها كذلك كل الفعاليات الرسمية وشبه الرسمية، وإن كان رفض هذه يصدر بصوت أخفض حدة وأقل غضبا وأكثر استحياء، نتيجةً لموقعها، لكنه صوت واضح لالبس فيه، مسموع لا شك فيه، بين جلي لا غبار على أي من مراميه.
وكل هؤلاء متفقون على تسميتها "اتفاقية العار" (جناسا، أوطباقا، أو كناية، أو تورية، أو تسمية للأشياء بمسمياتها الحقيقية، لاخلاف)، لما لها من أثر - نفسي ومعنوي ومادي - سلبي بغيض علينا جميعا. وما علمتُ، ولا سمعتُ، ولا خطر على بالي، أن هناك اتفاقية (لا بل "اختلافية") أكثر إيلاما لمشاعر الأردنيين من هذه "الاختلافية"، إلا تلك التي يسمونها "اتفاقية وادي عربة".
لقد جاء الرفض، وما زال يجيء، في الجلسات الخاصة كما جاء ويجيء في الجلسات العامة والاجتماعات واللقاءات المنظمة المعد لها مسبقا لمناقشة هذا الأمر الغريب المستغرب منَّا وعنَّا. وجاء الرفض كذلك في المدينة والقرية والبادية والمخيم، كما جاء في الشارع، وجاء في الميدان، وجاء في الحارة، وجاء على الدوار، سواء بسواء.
لقد جاء الرفض بالتعبير المباشر كما جاء بكل أسلوبِ تعبيرٍ آخر. لقد جاء الرفض في جميع وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، الرسمية منها وغير الرسمية، على حد سواء. فماذا بقي؟
لا أحد في الأردن - إلا ذوي العلاقة المستفيدين مباشرة - يريد المضي بهذه الاتفاقية الاختلافية (ولا أقول الخلافية)، مهما كان الثمن المترتب على رفضها. فكرامة الأردنيين أغلى من أي ثمن، وكبرياؤهم أكبر من أي اعتبار، وإرادتهم يجب أن تعطى الأولوية على كل إرادة غيرها، سوى إرادة المولى، عز وجل. وعروبتهم يجب أن تظل، كما كانت على مدار الزمن، نقية من أي عيب، خالية من أي دنس.
وأنا أجزم هنا أن هذه الاتفاقية ليس لها مردود إيجابي واحد على الأردن، والبدائل كلها موجودة ومطروحة وميسورة. ولنا في ما تسمى اتفاقية "وادي عربة" أفضل دليل. ولنا كذلك في اتفاقية "كامب ديفيد" واتفاقيات "أوسلو" أوضح مثال وأدقه، إن أردنا التوسع في المقارنة وأخذ العبرة. و"المؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين"! أفنرضى أن نلدغ مرة بعد مرة، ولا نعي ولا نأخذ حذرنا؟
وأنا، مثل الكثيرين غيري، عاجز عن فهم إصرار هذه الحفنة من الناس(؟) التي تدعو لإنفاذ الاتفاقية (وتدعو لها بالنجاح) ما دامت هذه الاتفاقية مرفوضة سرا وجهرا، ومرفوضة قلبا وقالبا، ومرفوضة شكلا ومضمونا، وحتى آخر حرف لم نره من حروفها.
وأنا، مثل الكثيرين غيري، عاجز عن فهم إصرار هذه الفئة من البشر(؟) على السير قدما بهذه القضية، ما دامت هناك دول عربية شقيقة، أمينة، موثوقة، مؤتمنة على ما بيننا وبينها، مثل قطر والجزائر، مستعدة لتزويد الأردن بالغاز بأسعار أخفض تكلفة، وشروط أقل قسوة، ومصداقية أكبر بكثير من تلك التي يفتقر بنو صهيون لأي جزئية من جزئياتها. وشاهدنا هنا التاريخ، قديمه وحديثه.
وأنا، مثل الكثيرين غيري، عاجز عن فهم موقف هذه المجموعة من الخلق(؟) إزاء هذه الاتفاقية المشينة (كما يصفها كل الأردنيين الشرفاء) ما دامت هناك دول صديقة، مثل قبرص، مستعدة لتزويد الأردن بالغاز، ودون أن يكون هناك أي احتجاج من أي أردني، اللهم إلا هذه المجموعة نفسها التي "تشق قناتها" باتجاه بني صهيون.
وأنا، مثل الكثيرين غيري، عاجز عن فهم موقف هذه القلة القليلة من أبناء الأردن(؟)، هذا الموقف الذي ليس له نتيجة إيجابية واحدة، اللهم إلا تكبيل أيدي الأردن والأردنيين وتقييد أرجلهم باتفاقية لا يعرف مضمونها الفعلي، ولا مدى خطورتها الحقيقية، إلا هم ومن يصدرون لهم الأوامر. وحتى هؤلاء ربما لا يعرفون.
أريد أن أعود قليلا إلى الوراء في التاريخ "الحديث جدا" (إن كان لنا تاريخ نحترمه) ، وأضع ألف علامة استفهام (وعلامة أخرى فوقها) على الهجمات التي كانت تنفذ على خطوط الغاز المصرية، في خلال الأعوام القليلة التي مضت. إنني أجزم هنا أن هذه الهجمات كانت "فبركات" صهيونية مدروسة بعناية، ومخطط لها بليل ومكر، محاولة من عدو القيم والأخلاق لأن يوصلنا إلى ما نحن نعاني من محاولة فرضه علينا اليوم.
ماذا نقول لأرواح الشهداء العسكريين والمدنيين الذين قضوا في اللطرون وباب الواد وفي كل مكان من فلسطين؟ ماذا نقول لأرواح الشهداء العسكريين والمدنيين الذين قضوا في معركة الكرامة الخالدة وفي كل المعارك التي سبقت والتي تلت على طول خطوط المواجهة والنار مع عدو لا يعرف كيف يهجِّئ كلمة "أخلاق"، على بساطتها وقلة عدد حروفها؟
أنقول لهؤلاء بادلنا بأرواحكم وتضحياتكم وبطولاتكم كمية من الغاز ندفع ثمنها أضعافا مضاعفة لمن قتلكم ليشتري به مزيدا من السلاح يقتل فيه البقية الباقية منا ومن أهلكم الأحياء؟
ماذا نقول لأهل هؤلاء الشهداء الذين تزين بطولات أبنائهم وتضحياتهم وشهادتهم صفحات تاريخنا المجيد، الذي سيظل يروي قصص الشرف والمجد والفخر باعتزاز إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وما عليها؟
هل نقول لهم لقد بادلنا بصبركم وألمكم وحسرتكم على من فقدتم قيدا كبلنا به أنفسنا ليزيدكم ويزيدنا صبرا مرا على صبر، وألما ممضا على ألم، وحسرة قاتلة على حسرة؟
ماذا نقول للفلسطينيين الأحرار الذين سلبت أرضهم، وديست كرامتهم (ومعها كرامتنا وكرامة كل العرب والمسلمين وكل ذوي الضمائر الحية) وقُتَّلوا شر تقتيل، وشُرِّدوا أسوأ تشريد، وحرموا من أبسط حقوقهم في كل مجال وفي كل محفل، وبيعت مقاومتهم في سوق النخاسة على يد العدو و"الصديق"، والغريب والقريب، دون تمييز؟
هل نقول لهم لقد بادلنا بقتلكم وتشريدكم وإهانتكَم (وإهانتنا معكم) وحرمانكم ثروات مسروقة من بلادكم وبلادنا (فلسطين) ندفع ثمنها لعدو حاقد لنمكنه من بناء المزيد من أوكار التجسس والقتل والدمار والتشريد على كل ما يقع تحت يده القذرة من أرض الطهر والصمود والقداسة، وبذلك نسبب لكم (ولنا، إن لم ندرك) المزيد من التشريد؟
ماذا نقول للدم العربي الذي يجري في عروقنا وفي عروق كل الأحرار من أبناء هذه الأمة الخالدة المجيدة الماجدة، من موريتانيا في الغرب إلى عربستان في الشرق، ومن لواء إسكندرونة في الشمال إلى أبي موسى والطنب الصغرى والطنب الكبرى في الجنوب؟
أنقول لهذا الدم لقد بادلنا بنقائك وصفائك وكرمك وكرامتك وعزك وفخارك غازا كريها من عدو كريه لكي نلوثك به، ونلوث معك تاريخنا المشرف، وحاضرنا الزاهر، ومستقبلنا الواعد الموعود، وسمعتنا الطيبة، ومكانتنا اللائقة المحترمة بين الناس؟
آتونا بالغاز أوالبترول أو أي من مشتقاتهما من أي مكان آخر مقبول لنا في هذا الكون الفسيح. آتونا به بأي قدر من المال بالغا ما بلغ، وآتونا به محمولا على أكتافنا، إن اقتضانا الأمر. نعم! آتونا به بأي سعر أو شكل أو وسيلة، شريطة أن لا تُمَسَّ كرامتنا، ولا تتلطخ سمعتنا، ولا تزيغ عيوننا أمام أبنائنا وأحفادنا، كلما سألونا عن معنى كلمة "غاز". وإلاَّ يكون هذا ممكنا، فإننا مستعدون إلى العودة إلى عصر موقد الحطب، وسراج الزيت، والثياب المغسولة على طرف أقرب بئر أو سيل ماء إلينا.
فالحرة "الحرة" يمكن أن تتلف جوعا وعطشا وعُريا ومرضا، ولكنها لا يطيب لها عيش أبدا إذا أجبرت في لحظة من اللحطات على أن تأكل أو تشرب أو تلبس أو تتداوى، إذا كان أي من هذا على حساب ثدييها. هكذا رَبِينَا، وهكذا رُبِّينَا، وهكذا نحب أن نموت.