لا أعرف من أين أبدأ! فالبدايات معك منذ أول بداية مثل سلسلة لا متناهية من البدايات، كيف لا وأنت بداية كل شيء في حياتي؟
بدأت ألعب الشطرنج بمباراة معك بعد أن علمتني إياها وأعطيتني مفاتيح أسرارها. كنت تلعب معي بكل جدية رغم فارق السن الكبير بيننا: أنت ذو أربعة وثلاثين عاما، وأنا ذو ستة أعوام. ورغم فارق الخبرة الشاسع جدا بيننا، إلا أنك لم تقبل يوما أن تتهاون معي وأنت تحرك أحجارك. كان هدفك أسمى وأرقى وأهم من مجرد أن تسحق حجارتي. كان مرامك أن تجعل مني لاعبا بارعا، وهكذا كان: فزت أولا في بطولة مدرسة عجلون الثانوية للبنين، وفزت أولا ببطولة الإتحاد العام الأولى لطلبة الأردن/ فرع البصرة، في العراق، وخرجت من نصف النهائي في البطولة الثانية لأنني تسرعت، وتذكرتك حينها والدمعة كادت أن تنساب من حدقة عيني عندما كنت تقول لي: "الحجر السابع عشر في الشطرنج هو الصبر".
وبدأت رحلة الألف ميل في سبر أغوار التاريخ بخطوة أولى معك، وذلك حين رويت لي قصص الحرب العالمية الأولى والثانية وأنا ذو سبعة أعوام، ثم قصصت علي قصة إحتلال العدو الصهيوني للأرض العربية منذ بدايات القرن المنصرم حتى عام 1986، ثم حدثتني عن الحرب الأهلية الكورية. وحكيت لي بأسلوب الحكواتي المسلي كيف إستطاع العرب وصول إسبانيا، وأفردت لي مفردات الزهو والإفتخار والإعتزاز على بساط التاريخ وأنت تخلب لبي عن صلاح الدين الأيوبي وهو يحرر القدس.
وبدأت رحلتي الأولى حول العالم معك بأول صفحة قلبتها من أطلس إشتر يته لي وأنا ذو سبعة أعوام. وعلمتني كيف أستخدمه؛ فأبحرت بسفينته بحار العالم ومحيطاته. وإستكشفت ببوصلته جغرافية عالمنا بما فيها من كنوز دفينة وخبايا ثمينة.
وكنت أنت المحارة التي خرجت منها لؤلؤتي الأولى: حب الجرائد. عرفتني أولا على صحيفة الرأي وأنا فقط ذو ثماتية أعوام، ثم قدمت لي د. فهد الفانك، وأبا علي "طارق مصاروة" ومؤنس الرزاز، وغيرهم. وكنت تقول لي: "إقرأ الخبر الفلاني، وإقرأ المقال الفلاني". ورغم جهلي بمضامين الخبر ومدلولاته، ورغم علو كعب ذاك المقال بالنسبة لطفل ذي ثمانية أعوام إلا أن رغبتك هذه كان وراءها غاية لم أدرك معناها إلا حين فزت بالمركز الأول في مسابقة المعلومات التي نظمها مكتب سكرتارية الطلبة العرب/ فرع البصرة، في العراق، على مستوى الإتحادات العربية الأعضاء في المكتب، إذ كانت إجابتي على السؤال الأخير قد حسمت اللقاء النهائي حيث كنت أحد لاعبي فريق الإتحاد الأردني حينها إذ تغلبنا على فريق الإتحاد الفلسطيني.
وعندما رأيتني أرفع شدة صوت التلفاز عندما بث التلفاز الأردني لأول مرة أغنية "عبرت الشط على مودك" للقيصر كاظم الساهر، ووجدتني مسحورا بصوته مفتونا بأغنيته، وأنا ذو إثنا عشر عاما، سألتني: أأعجبك صوته؟ فأجبتك: نعم، وإكتفيت أنت بإبتسامة غامضة، لتفاجئني في اليوم التالي، عندما عدت من المدرسة، بشريط "كاسيت" إشتريته لي، كان عبارة عن ألبوم غنائي لكاظم الساهر "العزيز".
وأنت أول من أهدى لي كتابا، وأنت أول من خط لي إهداء. كنت حينها ذا ثلاثة عشر عاما، والكتاب عنوانه: "كنوز العلم"، وهو أغلى كتاب على نفسي من بين كل كتب مكتبتي، وأثمن هدية أهديت لي طيلة عمري حتى اللحظة.
وحين سألتك رأيك في أول إنشاء في اللغة العربية كتبته بنفسي في الصف الثامن الأساسي، قلت لي: "لو طلبت مني أن أكتب لك إنشاء في إطار هذا الموضوع لما تفوقت عليك فيما كتبته". بهذه الكلمات زرعت في نفسي بذرة الثقة المطلقة في الإنطلاق في عالم الكتابة. كيف لا وكنت قد أسست قواعد اللغة ونحوها في لغتي العربية بإمتياز، وكان نتيجة ذلك أن فزت في المركز الأول في مسابقة كتابة الخواطر التي نظمتها مديرية ثقافة محافظة عجلون حينما كنت ذا ثمانية عشر ربيعا. والخاطرة عنوانها "الصحراء". وأكثر من ذلك أنني نشرت عدة مقالات وخواطر في صحيفتي العرب اليوم، والرأي. وها أنذا اليوم أنشر مقالاتي هنا في "عمون". وألفت كتابا بعنوان "من وحي المجهول"، سأهديك أول نسخة منه قريبا.
كنت تلعب معي كرة القدم على سطح البيت، وشرحت لي قوانين اللعبة وقوانين معظم الألعاب الرياضية. وكنا وما زلنا نشاهد معا المباريات، نحلل ونتوقع معا النتائج، وحدسك الكروي لا يخيب في معظم توقعاتك.
وحين قمت بأول عملية سرقة وأنا في الصف الثاني الإبتدائي، عندما سرقت آلة حاسبة لأحد زملائي في المدرسة، كدت -لولا والدتي تدخلت- أن تضع سيخا محمرا حد الجمر على يدي لتربيني ألا أسرق مرة أخرى، وذاك يوم، وهذا يوم!
وحينما كذبت كذبة سوداء كبرى أثارت حفيظتك بشدة، وضعت فلفلا أسودا في فمي ما زالت "حرورته" تصلي لساني!
إختلفت معي كثيرا، عارضتني بشدة في عدة أفكار، منعتني من أمور شتى، وحرمتني من أشياء كثيرة، قسوت علي مرارا وتكرارا، لكنني أدرك الآن لماذا فعلت كل ذلك.
أسأت إليك كثيرا، وتطاولت عليك مرات عديدة، لكنك سامحتني دوما ونسيت كل سوء أفعالي، فما أعظمك! ما أجلك! ما أطيب قلبك! أنت أعظم إنسان في حياتي!
خيبت أملك في التوجيهي، لكنك سامحتني ورافقتني في أول رحلة لي للعراق لأدرس الهندسة. رسبت سنتين في الجامعة، لكنك صبرت علي صبرا مريرا حتى نلت شهادة البكالوريوس في الهندسة الميكانيكية.
كنت وما زلت تقف معي في أحلك الظروف وأصعبها! وإذ تنبح "الكلاب" في وجهي لا تجرؤ على عضي فذلك خوفا من جبروتك وجبنا من رجولتك!
لا أستلذ بنبيذ غير النبيذ الذي تصنعه! ولم أستمتع يوما بعصير الليمون والنعناع مثلما أستمتع بالعصير الذي تصنعه! وما أشهى "حوساتك" التي كنت تحوسها لنا ونحن صغار أنا وأشقائي عندما كانت والدتي تعطي "سابعة" في المدرسة!
والدي الطيب،
كل صفحات البحار لا تكفي لأسطر عليها ما فعلته لي وما صنعته لي وما زلت تفعل ذلك وتصنع؛ فأنت الألف في أبجديتي، وأنت النجم الأول الذي رأيته في كل البطولات التي فزت بها، وأنت القديس الذي لم تعلنه الكنيسة بعد، وأنت الجندي المجهول الذي لم أصنع له تمثالا من ذهب بعد؛ فكيف أشكرك اليوم في عيد ميلادك الثامن والستين؟
شكرا جزيلا لك على كل شيء. شكرا لك بعدد نجوم السماء، شكرا لك بعدد حصى رمل البحر، شكرا لك بعدد أوراق شجر الزيتون، شكرا لك وألف شكر يا أعظم إنسان في حياتي!