في العام 2016، اختار معجم أكسفورد كلمة post – truth ما بعد الحقيقة، ككلمة العام، وهي كلمة يختارها في تقليد سنوي يختار فيه المعجم الكلمة الأكثر تأثيرًا والأكثر رواجًا في تداولها وفي استخدامها العام، تشير معاجم اكسفورد إلى أن الاصطلاح هذا يشير الى تراجع واضح للحقيقة لصالح الكذب في ظل عصر الإغراق المعلوماتي الهائل الذى أصبح يجتاح الكرة الارضية، حيث أصبحت المعلومات والحقائق الموضوعية أقل نفوذاً في تشكيل الرأي العام وأقل قدرة على التأثير فيه من الانحيازات العاطفية والميول والأهواء الشخصية للأفراد والجماعات، بل ان الأفراد يميلون إلى انتقاء المعلومات والآراء التي تدعم توجهاتهم المسبقة، مهما كان عوار المعلومات وعدم مصداقيتها، ومهما كانت الآراء غير متماسكة، في مقابل الميل لطمأنة الذات لاختياراتها وقناعاتها العاطفية!
المصطلح الذي تحول إلى كلمة العام، أضحى تقريبًا هو الكلمة الأكثر تعبيرًا عن الحقبة التاريخية الراهنة برمتها، التي ذابت فيها الحياة في ثنايا الأكاذيب في السياسة والاجتماع والاقتصاد...، وصار فيها المتخيّل هو البديل عن الواقع الحقيقي الذي جرى تزييفه على نطاق واسع في أعين الكثير من
الناس!
وبحسب عالم الاجتماع الأمريكي «هربرت شيللر» يتحول الساسة والصحفيون ومصممو الدعاية ورجال العلاقات العامة في هذا الإطار، عند استحداثهم لمعنى زائف أو طرحهم لأفكار وتوجهات لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي أو مصالحه وفرضها عبر الإقناع يتحولون إلى سائسي عقول لشعب أكثره من القطيع، وكل ذلك يتزامن مع تنامي الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار مبيناً ان ذلك يمثل احدى أدوات القهر التي تسعى من خلالها النخبة إلى تطويع الجماهير إلى أهدافها الخاصة، عندها ستنتفي الحاجة إلى اتخاذ أي تدابير بديلة أكثر كلفة وصعوبة. مضيفاً حول تلخيص هذه الحالة أننا أصبحنا نرى امام اعيننا موتا للواقع الحقيقي تحت وطأة التمثيليات ونسخاً غير اصلية مقلّدة أو تحت نماذج متخيّلة التي من أبرزها اليوم الفضاء الافتراضي لمواقع التواصل الاجتماعي، وصرنا نعيش في عالم تزداد فيه المعلومات أكثر فأكثر، بينما يصبح المعنى فيه أقل فأقل،
لا يمر يوم دون أن تظهر عدة أخبار مفبركة وكاذبة في وسائل التواصل الاجتماعي وأصبحت الأخبار الطاغية هي الأخبار المزيفة أو المفبركة، صوتاً وصورة ونصّاً لم يعد معها الكذب إشاعة تنتشر في الأسواق، بل تحول إلى صناعة كاملة قد تحل ذات يوم محل الحقائق برمتها. ويوميا يقع الكثيرون مثقفون وغير مثقفين ضحية لهذه الشائعات والاكاذيب والتي تقع مسؤولية محاربة انتشارها على عاتق الجميع للحد من انتشار الأوهام التي قد تتسبب في قلاقل وحروب وعدم استقرار،
أصبحنا بحاجة الى تجنيد آلاف من الخبراء لمقاومة هذا التزوير أو لصناعة تزوير مضاد، سيما وأنه لا رقابة ولا نظام ولا مسؤوليات أو ضوابط عند ملايين المشاركين في مواقع التواصل، في عصر وسائل التواصل الاجتماعي ينشر الجميع ما يريدون، تنتشر مواقع الأخبار الزائفة وتبث أكاذيبها كالطوفان.
عالمٌ تراجع فيه دور الحقيقة حتى باتت مغيبة تماما، أصبح الحرب يعني السلام والحرية هي العبودية والجهل والبلطجة هو القوة، عالم تسيطر عليه الخطابات الشعبوية المتكئة على تأجيج العواطف والمخاوف والاكاذيب والاوهام.
انه عصر ما بعد الحقيقة، تراجعت فيه القيم وانحسرت الموضوعية والنزاهة والشراكة الإنسانية والانفتاح والحوار وقبول الاخر، هذه القيم التي طالما تغنى بها المثقفون والمفكرون ونادى بها الإصلاحيون في كل زمان ومكان، عصر ارتدّ فيه العالم على عقبيه يحارب الحقيقة ويقمعها تفشى معها الهراء وأصبح مادة للنقاش عبر الأخبار الوهمية أو الكاذبة التي يمكن اختلاقها في دقائق، ولكن ربما استغرق الأمر أيام وسنوات لفضح زيفها،
يقول الفيلسوف الإيطالي إمبرتو إيكو في نقد حاد وجهه إلى الجانب السيئ لوسائل التواصل الاجتماعي " إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى ممن كانوا يتكلمون في الحانات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورا. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل.. إنه غزو البلهاء،