الامير الحسن يكتب : عندما نتحدث عن طريق الحرير وطريق التوابل وطريق الحج، لمَ لا نفعّل طريق الأفكار باللجوء إلى قوة الأفكار؟
الامير الحسن بن طلال
06-09-2009 11:43 PM
عمون - اختار صاحب السمو الملكي الامير الحسن "عمون" من الصحف الالكترونية الاردنية الاخبارية والجزيرة نت من العربية والغد والدستور من الورقية الاردنية لنشر مقالته بعنوان "فضاء الأفكار " .. وفيما يلي نص المقال :
بقلم : الحسن بن طلال (*)
يقول الإمام عليّ (كرّم الله وجهه): "إن الوفاء توأمُ الصدق ولا أعلمُ جُنّةً أوْقَى منه". و"إن أخوفَ ما أخافُ عليكم اثنتان: اتّباعُ الهوى، وطولُ الأمل." (نهج البلاغة؛ شرح الأستاذ الإمام محمد عبده، ج1)
لا يدعونا شهر رمضان الكريم إلى التعبد فحسب، وإنما أيضًا إلى التفكر والتدبر والتلاقي والحوار. وفي هذا الصدد، فإن التركيز على فن المحادثة النبيل وآداب المجالس يمكّننا من اللحاق بالرّكب في مجال الحوار، طالما أن غايتنا هي التنوير، أيًا كان مصدره. إن فن المحادثة النبيل يضرب في عمق تراثنا؛ ليس فقط بين الأفراد، وإنما أيضًا بين المدارس ومراكز الإشعاع الفكري المعرفي. هنا أذكر مناظرة أحمد بن محمد الرازي وأبي حيّان التوحيدي، وجدل الغزالي وابن رشد (تهافت الفلاسفة وتهافت التهافت)، كما أشير إلى ما مثلته تاريخيًا مدن البصرة والكوفة، بغداد والقاهرة، والمشرق والمغرب.
أتاحت الوسائل المعلوماتية فرصة التواصل المباشر بين الكاتب والمتلقي. وقد سعدت بمتابعة التعليقات على مقالاتي الأخيرة عبر المواقع الإلكترونية. هنا أؤكد أن الغاية التي أسعى إليها هي الصالح العام. فالمنطلق بالنسبة إليّ هو - بالدرجة الأولى – إنساني، وآمل أن يشاركني هذا التوجه الكثيرون ممن يختلفون معي.
فمن يوافقني الرأي منهم ربما يتفق مع ذلك المنطق الذي أعرضه، أنا الفقير لرحمة ربي. أما من يختلف معي في النظرة والرأي، فإنني أدافع عن حقه في الاختلاف ضمن إطار حضاري.
إن المضي قدمًا يتطلب منا الرجوع إلى الماضي وإعمال النقد الذاتي كي يتم فهم الأخطاء والعثرات والاستفادة منها لتنير لنا درب المستقبل. وهو أمر أساسي، إذا أردنا أن نصوغ رؤية لمستقبلنا؛ أفرادًا أو مجتمعات أو دولاً.
نطور مع "طول الأمل" الأشياء التي نسعى إلى تحقيقها. فنحن جزء حيوي من هذا العالم ولدينا التزام جمعي تجاه منطقتنا. ووفقًا للتقارير الأخيرة، فإننا بحاجة إلى 55 مليون فرصة عمل في السنوات القليلة المقبلة. إن الارتكان إلى السياسات قصيرة الأمد وعدم الإسراع في وضع الخطط والاستراتيجيات طويلة الأمد لن يتيحا لنا الاستعداد لمواجهة هذا التحدي الصعب، الذي لا يمكن تجاهله أو التأخر في اتخاذ الخطوات الضرورية للتصدي له.
يقتضي الحوار الإيجابي ليس فقط تشجيع فن المحادثة النبيل، وإنما أيضًا فن الإصغاء، وترسيخ التفاعل الفكري المثمر، وتعميق الوعي بالقضايا الملحّة في عالمنا. وفي هذا الإطار، أؤكد أن للمجالس آدابًا وأهدافًا وأسسًا تستند إلى "تعظيم الجوامع واحترام الفروق"، وفق مقولة الإمام الشاطبي. إن السير على درب الأفكار يحتاج إلى التفاعل الفكري القائم على الإيمان والأخلاق والعلم والعمل والمعرفة بالواقع المحلي والإقليمي والدولي.
مهما اختلفنا على هذا الطريق، لا بد أن نتفق حول المعايير الكونية والحريات المدنية وقدسية النفس الإنسانية. ومن شأن الحوار بين أتباع الديانات والحضارات والثقافات أن يعزز هذا التوجه عبر تطوير الخطاب الثقافي وثقافة المشاركة والتركيز على قضايا الأمن الإنساني والانفتاح على ثقافة الآخر واستيعابها. وللتواصل الإنساني دور أساسي في التقريب بين الثقافات والتركيز على الإبداع والخيال والقيم. وأشير باعتزاز إلى تجربة مجلة العربي في مسيرتها التنويرية على مدى خمسين عامًا؛ إذ لا تزال - إلى هذا اليوم - تنهض بالخطاب الاجتماعي والثقافي العربي.
في هذا السياق، أؤكد أهمية التعليم النظير في مجتمعاتنا العربية والمسلمة من أجل المساهمة في بناء الإنسان الحر وصقل عقله. عندئذ، يمارس حقوقه الديمقراطية ويؤدي واجباته ويشارك بشكل مسؤول في الحكم التشاوري. إن التعليم الحقيقي ينقلنا إلى آفاق المعرفة الرحبة، ويوسّع مدارك العقل أمام حكمة تراثنا الإنساني المشترك. فإذا كان غيرنا قد درس منطقتنا وشعوبها بشكل معمق، فالأحرى بنا أن ندرس أنفسنا حتى ننجح في ترتيب بيتنا العربي والإسلامي، ونحافظ على أمننا الإنساني بما في ذلك الأمن النفسي، ونصل إلى آليات تساعدنا على ترسيخ التفكير الكلي.
لذلك، نحن بحاجة إلى الانفتاح على اللغات الأخرى ودراستها أكاديميًّا، وبخاصة التركية والفارسية والأردية والعبرية والسريانية وغيرها؛ بحيث يسهم ذلك في تعميق معرفتنا بالثقافات المحيطة بنا. أضف إلى ذلك اللغات الحية التي تعدها الأجيال المثقفة فضاءً لها وحتى ملاذًا. فنحن نستنشق الهواء نفسه ونشرب الماء نفسه؛ لكننا نفرض على أنفسنا العزلة في فضاء الأفكار.
هنالك قاعدة ذهبية نجدها في مختلف الديانات في العالم منذ الأزل، تؤكد وجوب أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه. وفي هذا الشهر الفضيل، يمكن تفعيل هذه القاعدة الذهبية بالتقليل من مظاهر الترف والبذخ غير الضرورية، وتوجيه الإنفاق إلى الزكاة والصدقات والمشروعات الإنسانية. ومن شأن ذلك أن يسهم في عملية تمكين الفقراء بإرساء ثقافة مجتمعية تستند إلى قيم المساواة والعدالة. فيصبح من اليسير عليهم الوصول إلى حقوقهم القانونية والاجتماعية وتأمين سبل العيش الكريم. إن العمل الإنساني مكمّل للعمل الديني. وفي هذا الإطار، يمثل التمكين القانوني للفقراء مبادرة إنسانية لا تتعارض مع مبادئ السنة والشريعة.
لا بد من تعميق الصلة بين العمل الخيري ومؤسساته، بما يضمن الاستثمار الإيجابي للموارد من أجل التغيير نحو المواطنة المعطاء. إننا نعيش حاليًا في الوقت الضائع، منذ أن انفصلت عرى العمل الخيري عن مؤسساته. وآمل أن تحقق منظمة الزكاة الدولية أهدافها في تأسيس صندوق عالمي للزكاة والأعمال الخيرية، يهدف إلى التعامل مع الزكاة كأداة للتنمية الاقتصادية والتكافل الاجتماعي وتعزيز التضامن والتعاون بين المجتمعات والدول الإسلامية.
هنالك حاجة ماسة في منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا WANA لتفعيل التشبيك وقنوات الاتصال؛ استنادًا إلى معايير الحوار السليم. فيتم تقييم نتائجه وفق نظرة مستقبلية تنسجم مع القواعد المعرفية. وإذ تواجه هذه المنطقة تحديات فوق قطرية كبرى مثل المياه والطاقة والتصحر والفقر، فإنه لمن الضروري تبني مواقف متماسكة تجاه هذه القضايا بما يضمن كرامة شعوب المنطقة وحرياتها المدنية والدينية. ولا بد من إحياء التفكير العقلاني والتركيز على المنهج التحليلي في التعامل مع هذه التحديات كي نتجنب المزيد من عوامل الفرقة والتشرذم والانقسام.
لا بد من التركيز على الجانب الإنساني عند الحديث عن تفعيل الفضاء الثالث، الذي يجمع الأصوات الرسمية والمدنية. عندئذٍ، يمكن المضي في معالجة القضايا الإنسانية بنهج عقلاني يرسخ المفاهيم الأساسية التي يؤكدها الإسلام مثل الأوقاف والحِمى والخيرية. وتجب الإشارة إلى أن مفهوم الحِمى يشمل البيئة الإنسانية والبيئة المادية. كما يستوجب تطبيق هذا التصور وضع خطة للقدرة الاحتمالية للطبيعة والبشر من شأنها أن تحافظ على القواسم الإقليمية المشتركة وأن تحميها من الاستنزاف وتؤسس لمجتمعات الكفاءة والإبداع. فهذا هو السبيل للحفاظ على كفاءات شبابنا وخلق البيئة المناسبة للأجيال القادمة حتى تنعم بمستقبل يسوده السلام والأمن والطمأنينة بعيدًا عن الثنائيات السائدة في هذه الأيام بين الغنى والغنى الفاحش، والفقر والفقر المدقع.
في قراءتي للوضع الراهن، أؤكد أنني أتبع نهجًا وصفيًّا لا إرشاديًا في التعاطي مع التحديات التي تواجهنا. وأقول: عندما نتحدث عن طريق الحرير وطريق التوابل وطريق الحج، لمَ لا نفعّل طريق الأفكار باللجوء إلى قوة الأفكار؟
يمكننا بقوة الأفكار أن نرقى بأرواحنا ونسمو، ونطوّر قيم التسامح والكرامة والاحترام المتبادل. وإذ قيل إن للحزن صدى خاصًا به، فهل من صدى رحيم في خضم الأصداء الحزينة التي أرهقتنا؟
يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "إذا قامت الساعةُ وبيَدِ أحدِكم فسيلةٌ، فإنْ استطاعَ ألا يقومَ حتى يغرسَها فلْيفعلْ."
_____________________________________
(*) رئيس منتدى الفكر العربي وراعيه؛ عضو في لجنة التمكين القانوني للفقراء؛ رئيس شرف منظمة المؤتمر العالمي للأديان من أجل السلام؛ سفير الإيسيسكو للحوار بين الثقافات والحضارات.