ما أن تفضّلت عليّ، كعادتها، عمّون، ونشرت مقالي السابق الذي كان بعنوان "سلمتِ يا بحرين"، حتى انهالت عليّ الإتصالات بكل أصنافها الطيبة، وجاءت في معظمها من أنجاد متفرقة كان أبعدها ما جاء من داخل حدود جنوب إفريقيا. إتصالات لم يترك أصحابُها كلمة ثناء على البحرين إلاّ وقالوها، ولم يتركوا مفردة افتحار بهذا البلد المضياف إلاّ وأسمعوني أيّاها أو سطّروها. والغريب أن كل هؤلاء إنما قالوا ما قالوا صدوراً عن تجارب لصيقة؛ إما شخصيّة أو أنهم سمعوا بذلك من أهل وأقرباء وأصدقاء صادقين خُلّص. إلا أنّ الرسالة التي وردتني وأثارت فيّ إحساساً غريباً ما جاء من الدكتور مالك خريسات، الذي عاش في البحرين لسنين، وعاد إليها مؤخراً إذ يقول في رسالته: "إنك إذا تعاملت مع البحرين ستبكي مرتين؛ المرّة الأولى عندما تغادر أهلك، والمرّة الثانية عندما تغادر البحرين".
ويقول د. مالك: إنه منذ اليوم الأول الذي وَفَدَ فيه إلى المنامة، وجد نفسه مندفعاً نحو احتضان الزمن والهواء والماء والبحر والورد والقمر، وأكثر من ذلك خَالَ نفسَه وكأنما هو قد عاش عمره هنا. ومن أعجب ما أثاره في رسالته أنه وجد أصدقاءً كُثْرًا لم يكن يعرفهم من قبل لكنه أحسّ بأنه تربى معهم في السلط وفي عمان وفي كل مدينة وقرية أردنيّة.
وتمضى رسالة د. مالك تتحدث عن ذلك الحجم الهائل من الود الذي لقيه من كل الناس، بدء بالمسؤولين، وانتهاءً بالرجل العادي الذي كان يصادفه على قارعة الطريق.
وعلى الضفة الأخرى من الذكرى، يقول د. مالك: كان العمل الذي أوكل إليّ مصدر فخر وافتخار، وكان الحب الذي وجدته أكبر من الوصف، وهذا ليس حالي فقط، ولكن حال كل الضيوف الذين يصلون البحرين سامعين لنشيد يقول: يا ضيفنا لوجئتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل". كل البحرينيين تجدهم في خدمتك، ومع كل ذلك كنت ترى الجديّة وتحمّل المسؤولية، والصدق، والأمانة، والقدرة، والاقتدار كلها متمثلة في إبن البحرين وفتاة البحرين.
ويضيف د. مالك قائلاً: من العجب أن البحرين تكبر كلما حاولْتَ أن تقارنها بغيرها من الدول، وأنها تزدهر كلما جرّبت أن تتفحص جمالها بمقاييس جمال الآخرين، لذلك يقول د. مالك: سرعان ما عدت إليها عندما لاحت الفرصة، لأنهل المزيد من وفائها ورجولتها وصِدْقها وطيبتها وحِلْمها.
انتهت رسالة الدكتور مالك، وكنت أحسّ، كلما قرأت المزيد منها، أن هناك أشياء كثيرة لم يقلها، أو أنه عجز عن وصفها وأن الناس في البحرين ينامون ويصحون على الود والحنان والعطف والمرح والأمانة. وكنت أشعر أن هناك كمّاً هائلاً يريد أن يذكره د. مالك.
وبالفعل تشعر أن البحرين هي قطعة أرض مصنوعة من الطهر، وأنها أيقونة تجلس على شاطئ البحر، تغسل كل يوم بمياهه وجهها ويديها، وتدهن بالمسك المتطاير من شعرها، وتملأ رئتيها بالنقاء وتنفثه ريحاً طيبة ترطبّ كل الناس.
حماك الله يا بحرين، وتأكدي أني لم أكن أتوقع أن يجد مقالي السابق كل هذا الرجع، وكل هذا الصدى. ولكن حبّك هو الذي ملأ الدنيا رقة وعذوبة، فمّرة أخرى ... سلمتِ يا بحرين ... وشكراً يا مالك!!