التعددية الثقافية والمواطن الديلوكس
د. تيسير المشارقة
17-03-2019 03:35 PM
فتحت أحداث نيوزلندا الإرهابية الحوار حول مسألة التعددية الثقافية والتنوّع في حياة الشعوب والأمم. ويتطلع علماء الإعلام والاجتماع إلى تسخير كل من الإعلام والتعليم ومؤسسات المجتمع المدني لإسناد التعددية الثقافية والفكرية. هناك من يركز على مؤسسات المجتمع المدني في إنعاش النقاش التعددية ويغفل الدور في عملية التشظية والتقسيم الثقافي القسري الذي تمارسه بعض مؤسسات المجتمع المدني المرتبطة بأجندات سياسية ومالية أجنبية في العالم العربي. ولا يجوز في هذا المقام وهذه القضية "التعددية الثقافية" من إغفال الدور الهام لكل من الإعلام والتعليم.
من المؤسسات الأردنية التي تقود المثقفين نحو ثقافة سياسية راقية منفتحة على كافة القضايا، نذكر مركز نيسان للدراسات والأبحاث الدي يديره معالي السيد بسام حدادين. وهذا المركز قام في الآونة الأخيرة بفتح النقاش حول أهمية التعددية (الثقافية والفكرية) كجزء من الديمقراطية الفكرية وليس السياسية فحسب. استطاع أن يقد لنا في ندوة خاصة مجموعة من العقول التي تناولت قضايا لها علاقة وثيقة بالتعددية الثقافية وتم ربطها بالتسامح والعدالة الاجتماعية والمجتمع المدني. معالي د. صبري ربيحات يرى أن العالم في أزمة وأن التنوّع في الفكر ومنظومة القيم شكّلا تحدياً للخصوصيات الثقافية. وبالتالي نحن نشعر باننا مع التعددية السياسية ولكننا ضد التعددية الفكرية وهنا انفصام ديمقراطي واضح.
وضروري في هذا السياق الحديث عن دور وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي والدور الذي تقوم فيه في عملية التشظية والتفتيت الثقافي بحيث يلزم المرء عشرات الساعات لمعرفة الاتجاهات الثقافية والفكرية ويخلط العديد منّا ما بين الثقافي والسياسي، وهناك رابط غير مقدّس ما بين الديني والسياسي. وكان د. ذوقان عبيدات قد طرح مسائل لها علاقة بالتعليم والتعددية الثقافية وبخاصة أننا في الأردن لدينا 16 جماعة فرعية عرقية أو إثنية أو جهوية، وأنه ينبغي العمل على وضع الترتيبات لمسألة (التعايش) وضرورات العيش المشترك والاحترام المتبادل بين هذه الفئات في المناهج التعليمية. ويخلط البعض بين التعددية الثقافية (بلوراليزم) والتنوّع (دايفيرسيتي)، فنحن هنا نقف مع التنوّع واحترام التعددية لكننا ضد التشظية الثقافية والعرقية والإثنية. وينبغي أن نفرّق ايضاً بين "المجاملة " التي لا تعني احترام التنوّع، و"الاحترام" للتعددية الثقافية.
مسألة التعايش الإنساني الثقافي القائم على التنوّع و"الحق في الاختلاف" من الأهمية في حياتنا لمواجهة (المواطن الديلوكس) وتعبيرات (فوق المواطنة) و(فوق التعددية) التي تتطلّب "صهر الجميع في بوتقة المواطنة" على حد تعبير د. ربيحات. فالتطرف القبلي هو الإرهاب بعينه. ولا يجوز لـ "أبناء الحراثين" ولا لغيرهم من مكوّنات المجتمع الأردني الـ 16 فرض رؤيتهم "فوق المواطنيّة" على الآخرين، باعتبارها "فوق تعددية". ومن هنا يرى البعض أن العقلية الدينية التكفيرية معادية للتعدية الثقافية والتنوّع. كما أن الدولة القبلية الدينية قد تقترب من الفاشية والاستبداد. فالقبيلة الواحدة التي تعبر أن الوطن لها وحدها يوحي بأن القبيلة ضد التعددية الثقافية، ويقوم البعض من أصحاب "العقلية الغلوكوزية" طلباً للغلوكوز من الدولة الريعيّة بفرض مزاجهم في حالة من التغوّل القبلي والديني وهو بحد ذاته تغوّل ثقافي مكروه.
ختاماً، فإن الإعلام الذي هو جزء من المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية عليه مهمة كبرى باعتباره مرآة للدولة المدنية ويفسّر المجتمع، عليه الدور الأكبر إلى جانب التعليم في بعث الحياة للتعددية والثقافية والتنوّع والحفاظ على قدر من التعايش الإنساني. وهذا لا ينفي أن هناك من يحاول فرض ذاته كـ "قبيلة ناجية" (فرقة ناجية) ضمن مبدأ الأنا العليا والهوية الفرعية الناجية، وتصبح بعد ذلك "هوية قاتلة" على حد تعبير ذوقان عبيدات. فالقبليون يعيدون بلدانهم ودولهم التي هي على مشارف المدنية إلى مرحة ما قبل مرحلة "المشاعية البدائية" وقبل مرحلة "الإقطاع" في وقت نعيش فيه الحداثة وما بعد الحداثة والسوبر حداثوية. باختصار، لا يجوز لأحد من المكوّنات الـ 16 احتكار الوطن، ويمكن حماية فسيفساء التعددية الثقافية والتنوّع الثقافي والحق في الاختلاف بتعميق مبدأ المساواة أمام القانون في الدولة المدنية الواحدة وتعزيز الحق في التعليم والحق في العمل والحق المشاركة السياسية، ولا يجوز إغفال العدالة الاجتماعية وحقوق المرأة والطفل. (د. تيسير مشارقة /جامعة البترا/ كلية الإعلام)