لا شك أن موضوع الدين العام وكيفية تخفيضه هو من المواضيع التي تتصدّر المشهد الاقتصادي في المملكة، ومع تعدّد التقارير المالية المنشورة من قبل الحكومة، خصوصًا التي تصدر عن وزارة المالية والتي تتميز بالشفافية التامة والإفصاح السريع دون أي تأخيرات، فهذه بمثابة مدعاة لجميع المهتمين بالاطلاع على هذه التقارير.
معظم دول العالم اليوم يوجد على حكومتها دين عام حتى الدول المتقدمة اقتصاديًا يوجد عليها ديون، وقام صندوق النقد الدولي بإنشاء قاعدة بيانات الدين العالمية، وتم إتاحتها للعامة في مايو 2018 بشكلها الجديد، والتي تضم بيانات الدين الإجمالي (الخاص والعام) للقطاع غير المالي لما مجموعه 190 دولة تشمل الاقتصادات المتقدمة، واقتصادات الأسواق الناشئة، والبلدان المنخفضة الدخل.
وتشير بيانات صندوق النقد بأن الدين العالمي (الدين الخاص والعام) بلغ مؤخرًا أعلى مستوى له على الإطلاق بما مجموعه 184 تريليون دولار، أي ما يعادل 225% من إجمالي الناتج المحلي العالمي في عام 2017، كما يتجاوز متوسط نصيب الفرد من الدين العالمي 86 ألف دولار، وهو ما يقترب من 2.5 ضعف معدل دخل الفرد العالمي، أيضًا فإن الاقتصادات الأكثر مديونية في العالم هي من الأكثر ثراء، حيث يبلغ مجموع الديون في الولايات المتحدة والصين واليابان أكثر من نصف الدين العالمي.
أما بالنسبة للدين العام العالمي فتشير البيانات المتوفرة لدى الصندوق أنه وبعد انخفاض مطرد حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي، ارتفع الدين العام منذ ذلك الحين بقيادة اقتصادات الدول المتقدمة، تلتها في الفترة الأخيرة البلدان الناشئة وذات الدخل المنخفض النامية، كما أن التقديرات تبيّن أن حوالي ثلث الدين العالمي هو دين عام، أي ما يقترب من 60 تريليون دولار.
وبالنظر إلى بعض البيانات الاقتصادية المتوفرة من بعض المراجع والتي تعتمد بشكل رئيس على البيانات الاقتصادية للعام 2017، كانت اليابان أعلى دول العالم (من بين 181 دولة تتوفر بيانات الدين العام لها) تسجيلًا للدين العام نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي بما مقداره 236%، تلتها اليونان بنسبة 186%، أما عربيًا كانت لبنان الأعلى تسجيلًا بنسبة 153% والثالثة عالميًا، وسجّلت إيطاليا ما نسبته 131.5% في المرتبة السادسة، والولايات المتحدة ما نسبته 107.8% في المرتبة الرابعة عشرة عالميًا، ومصر في المرتبة 16، وجاءت المملكة في المرتبة 24.
وفيما يخص الأردن فبحسب آخر نشرة لمالية الحكومة العامة والصادرة في كانون الثاني 2019، فقد بلغ إجمالي الدين العام مع نهاية العام 2018 ما مجموعه 28.3 مليار دينار مشكلًا ما نسبته 94% من الناتج المحلي الاجمالي، حيث بلغ الدين الداخلي ما مجموعه 16.2 مليار دينار مشكلاً ما نسبته 57% من الدين العام، أما الدين الخارجي فقد بلغ ما يقترب من 12.1 مليار دينار وما نسبته 43% من إجمالي الدين، كما وبلغت خدمة الدین العام (داخلي وخارجي) موازنة ما يقترب من1.76 مليار دينار، أيضًا تشير البيانات بأن نسبة إجمالي خدمة الدین العام (أقساط وفوائد) إلى الإيرادات المحلية الفعلية بلغت 25.4%.
يختلف الاقتصاديون ومحللو السياسات حول عواقب تحمّل الديون الحكومية، ولكن وعلى جميع الأحوال فإن على الحكومات التي تعاني من عجز مالي تعويض العجز عن طريق اقتراض الأموال، مما يؤدي إلى مزاحمة القطاع الخاص والمستثمرين على مصادر التمويل، كما وتؤثر سندات الدين التي تصدرها الحكومات لخدمة ديونها على أسعار الفائدة، إذ إن التوازن مطلوب بين السياسة النقدية والمالية عند إدارة الدين العام.
إن العديد من المناصرين للنظرية الكنزية في الاقتصاد (Keynesian Economics) يعتقدون أن السياسة المالية للحكومات خصوصًا فيما يتعلق بزيادة الإنفاق الحكومي على المشاريع الرأسمالية في حالة الركود التضخمي، وحتى لو ترتّب على ذلك تسجيل عجز أو قروض إضافية، سيكون له تأثيرات إيجابية على نمو الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي سينعكس ذلك على زيادة الإيرادات الضريبية، كما سيؤدي إلى تقليل نسبة المديونية إلى الناتج المحلي الإجمالي، كما ويدعم معظم الكينزيين الجدد (Neo-Keynesians) أدوات السياسة المالية، مثل الإنفاق ولو بعجز مالي حكومي لتحفيز الاقتصاد من حالات الركود بعد استنفاذ محاولات التحفيز من خلال السياسة النقدية ووصول أسعار الفائدة إلى الحد الأدنى.
ومع وصول مصاريف خدمة الدين العام في المملكة نظريًا إلى نسبة تقترب من ربع الإيرادات المحلية الفعلية، تسعى الحكومة إلى زيادة الإيرادات المالية من خلال قانون ضريبة الدخل الجديد الذي تم إقراره في نهاية العام 2018، وتسعى إلى تقليل العجز المُسجّل في الموازنة العامة، والذي أدى إلى تقليل نسبة النفقات الرأسمالية من إجمالي الإنفاق في السنوات الماضية، كما وتبنّت الحكومة الأردنية استراتيجية إدارة الدين متوسطة المدى (2017-2021).
وقد يتساءل البعض عن مدى نجاعة السياسات والإجراءات المُتبعة حاليًا لكبح جماح الدين العام، ومدى اتّساقها مع بعضها لتحقيق التوازن المطلوب بين السياسات النقدية والمالية مع الإبقاء على محفزات النمو الاقتصادي من خلال تشجيع ريادة الأعمال، وزيادة الاستثمارات، والاستمرار في خلق فرص العمل، خصوصًا وأن معدلات الضرائب وأسعار الفائدة آخذة بالارتفاع مع انخفاض نسبة النفقات الرأسمالية من إجمالي الإنفاق، وسيكون لنا في مقالاتنا اللاحقة حديث عن التجارب الناجحة لبعض الدول في تقليل الدين العام، مع تقديم بعض المقترحات والحلول التي يمكن دراسة تطبيقها مستقبلًا.