نتيجة لإهمالي الدراسة في كلية الهندسة في جامعة البصرة في العراق، رسبت السنتين الدراسيتين الأولى والثانية، فأعدت كل سنة، ونجحت في الإعادة.
ومع بداية السنة الثالثة الدراسية، الخامسة زمنيا، بقيت مهملا لدراستي حتى سمعت فيروز تقول بصوتها الميتافيزيقي: "وهيدي الشجرة العتيئة... يللي ما كنا نطيئها" مشنفة آذاني بأغنية "إشتقتلك".
إنتابتني القشعريرة وأنا أعيد "الكاسيت" مرات عدة حتى أسمع فيروز وهي تذكرني بالليمونة "الشجرة العتيقة" في "حاكورة" بيتنا في عنجرة!
الليمونة "الشجرة العتيقة" التي لم أكن "أطيقها" قالت لي على إيقاع فيروزي: "لقد سقطت مرتين! يكفي! آن الأوان أن تنهض! وأن تثابر في دروسك كما ثابر والدك في العناية والإهتمام بي، وأن تتعب على نفسك كما تعب والدك علي، وأن تجد في في دروسك كما جد والدك في زراعتي، وإلا ستقتلعك الحياة من الوجود كما يقتلع والدك الأعشاب والأشواك من حولي".
رغم أنه من الصعب على شجرة ليمون أن تعيش في منطقة جبلية مثل عنجرة، باردة شتاء بردا قارصا، ورغم أنه من العسير على شجرة ليمون أن تحيا في موطن الريح، إذ تعرف عنجرة بريحها المحلية الشديدة الهوجاء في التشرينين الأول والثاني تحديدا، ورغم أنه من المشقة على شجرة ليمون أن تنمو في مزار الثلج في الكانونين الأول والثاني في عنجرة، إلا أن والدي قرر أن يزرع شجرة ليمون عاقدا العزم على تحدي كل الظروف البيئية غير الملائمة لها، غارسا بذرة النية في عمق الصميم على أن تكبر هذه الليمونة في ظل حرصه الشديد عليها.
لما كان والدي يحس بقسوة ضربات الريح على أغصان الليمونة، كان يحيطها بالبراميل كي يحميها من غوغائية ريح عنجرة. ولما وخزت آهات الليمونة قلب والدي من شدة حمل الثلج على جذوعها، هب إليها "يكت" الثلج عنها في عز البرد.
وكان يحرص على تسميدها في الوقت المناسب بما يكفيها من سماد، ولما شعر بألمها من شدة حرقة السماد الكيميائي في جوفها، ظل يسمدها سمادا طبيعيا. وإذا تناهى إلى مسامعه أنين الليمونة من العطش، سقاها حتى ترتوي.
ولأن عنجرة كانت وما زالت خاضعة لبرنامج زمني لتوزيع المياه، في فصل الصيف تحديدا، كان والدي يخصص حصة الليمونة من المياه في براميل خاصة بها في كل مرة تجري المياه في الأنابيب والمواسير.
وكبرت الليمونة! أجمل ليمونة! أبهى ليمونة! أطيب ليمونة! وما أكرمها بثمرها! وما أغناها بطعمها اللامثيل له!
ونهضت من الكبوتين! ونجحت في السنتين الدراسيتين الثالثة والرابعة، وحصلت على الشهادة الجامعية في الهندسة الميكانيكية في المركز الأول على الطلبة غير العراقيين!
والأردن الوطن مثله مثل الليمونة "الشجرة العتيقة"، مع فرق شديد: "أطيق" بلادي، فهي وإن جارت علي ليست عزيزة وحسب، بل غالية جدا.
فرغم كل الظروف الصعبة التي مرت بها بلادي منذ تأسيسها إمارة قبل نحو قرن من الزمان، ورغم كل التحديات التي ماجت أمواجها على شطآن سلامها، ورغم كل المؤامرات التي هاجت عواصفها على بوادي أمانها، إلا أن بلادي كبرت مثل الليمونة "الشجرة العتيقة" تضرب جذورها "من شتى المنابت والأصول" في لب الأرض وعمق التاريخ، وتسمو بساقها حاملا أغصان "النسيج الوطني" تشق عنان السماء، مكتنزة بأوراق "الوحدة الوطنية" دائمة الخضرة كيفما دارت الأرض حول الشمس وحول نفسها.
بلادي مثل الليمونة "الشجرة العتيقة"، تجذب العصافير إليها من مختلف الجهات لتبني أعشاشها على جذوعها الملتحمة بالساق أروع "لحمة وطنية" وهي مطمئنة القلب، تغمرها السكينة والإطمئنان، بعيدا عن فوهات بنادق الصيادين المحترفين، وحجارة "نقائف" الصيادين الهواة.
بلادي مثل الليمونة "الشجرة العتيقة" تنتصب في وسط دوامات الأزمات وفي مركز أفعوانيات التحديات شامخة باسقة عالية الهمة ولسان حالها تقول: "مهما إشتد الألم، ومهما كبر الهم، فإنني أشد عودا وأكبر قوة، فلا خوف علي ولا قلق على مستقبلي، والأمل أكبر بكثير من كونه مجرد فسحة بل هو فضاء لولاه لضاق بي العيش يوما وما ضاق بي لحيظة!".
وقبل أسابيع سألت والدي: كيف غامرت بزراعة الليمونة مع علمك مسبقا بأن الجبل لا يناسبها؟ أجابني بعفوية، بتلقائية: "كنت أعرف أنها ستتأقلم، ستتكيف ما دام أنني مخلص لها".
وأنا أجيب: وبلادي ستتكيف، ستتأقلم، ما دام أننا الأهل مخلصون لها ولبعضنا البعض!