يوما بعد يوم تتجلّى حتمية مراجعة تجربة العقد الماضي لتجنب الأخطاء والتقصير وتفعيل دور المؤسسات لتسريع عملية الاصلاح وإعلاء مداميك الوطن, حسبما وعد بذلك الملك عبدالله الثاني في خطابه الذي القاه مع بداية عشرية حكمه الثانية في حزيران الماضي.
فالمؤشرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية تحمل في طياتها الكثير من المخاوف حيال المستقبل وسط تساؤلات وطنية مشروعة حول نوعية المراجعة وآلياتها المطلوبة لبناء وطن قادر على التعامل مع تحديات القرن وعناوين المرحلة المقبلة; في مقدمة ذلك احترام روح الدستور كضمان لوقف التراجع والانحراف.
الملك عبدالله الثاني شخّص الوضع في تصريحاته في القيادة العامة للقوات المسلحة قبل أسابيع وسمّى الامور بأسمائها.
وهو على حق.
فغالبية المسؤولين ورجال الدولة منهمكون في تعزيز مواقعهم ومكاسبهم وتغذية صراعاتهم الشخصية في زمن الفوضى الخلاّقة بدل الانهماك في بناء وتحديث وطن قادر على احتضان الأردنيين بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والطائفية والدينية, في ظل سيادة القانون واقتصاد ديناميكي أساسه المعرفة, قادر على النمو وتأمين الحد الادنى من الرفاه والأمن الاجتماعي.
فالأردن يقف اليوم على مفترق طرق سياسيا, اجتماعيا واقتصاديا. وعليه تحديد الوجهة المستقبلية وبناء حال من التوافق الداخلي. ذلك أن وضعه كحال من بنى غرفة عمليات ناجحة بإشراف كبير الجرّاحين مع مساعدين, كل في تخصصه, لعلاج المرضى بعد تشخيصهم, وإجراء التداخل الجراحي, وصرف الأدوية ومتابعة أحوالهم للتأكد من الشفاء.
لكن يتم التعامل اليوم مع سلسلة أمراض باتت تنخر جسم الدولة بالمسكنات وعبر ترحيل المشكلات المستعصية بعد أن شاخت آليات العمل داخل غرفة العمليات, وكذلك تراجعت أدوات تدخل الدولة عبر التحاور والاحتواء أمام لغة الدرك, بدلا من تشخيص المشكلة الأساس ومعالجتها حسب المخطط.
تراكم أزمات
وزارة الداخلية لا تستطيع منع إطلاق المفرقعات الاحتفالية التي تؤرق ليل المواطن وتحجب حقّه في نوم هادىء. فئات متعددة في مختلف مناطق المملكة يعتصمون للمطالبة بحقوقهم الأساسية منها الحصول على مياه شرب... أو يخرجون رشاشاتهم لتكسير أملاك عامة وخاصة, ويقطعون الطرق لنيل حقوقهم بما فيها تسوية أمور عائلية. في خلفية المشهد, فقدان الثقة بدور السلطات الثلاث وبرامج الاصلاح الاقتصادي التي نفذت حتى الآن, ووعود الاصلاح السياسي التي لم تنفذ بعد.
صالونات الشغب السياسي تنفث نيرانها في الهشيم او كانتشار النار في غابة أشجارها جافة سريعة الاشتعال. لم تعد العملية مقتصرة على النخب السياسية في عمان, بل تعدتها لتدخل صواوين العزاء وبيوت الافراح في القرى والبوادي والمخيمات وتخلط بين الجهل والحقيقة. انتقادات الناس تمس الجميع بمن فيهم رموز ومواقع كانت محصنة وعصية على الاختراق.
بعد 20 عاما على إنطلاق مسار اصلاحات اقتصادية ومالية ساهمت في تقوية الجبهة الاقتصادية طبقا لوصفة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي, تخرّج الأردن بشهادة حسن سيرة وسلوك بأنه قادر على انجاز برنامج اقتصادي وطني. اليوم يجري البحث في اقتراض 300 مليون دولار من صندوق النقد الدولي ما يرهن ارادتنا باستمرار.
انحسر دور الاردن السياسي في قضايا الإقليم. صار جل الاتكال على البقاء داخل حدود متطلبات تحالف استراتيجي سياسي اقتصادي عسكري وأمني مع الولايات المتحدة ومعاهدة سلام مع إسرائيل. تقيّدت حدود الحراك أكثر مع سعي الاردن لتشكيل جبهة الاعتدال العربي بوجه محور التشدد, إذ حلّل شركاء "الاعتدال" لأنفسهم عمل كل شيء من تحت الطاولة ومن فوقها, مع حماس, وإيران وسورية, لخدمة أجنداتهم السياسية بينما مورست ضغوط على الأردن لكي لا ينوّع أدواته السياسية وخياراته الدبلوماسية. العراق لم يستعد عافيته السياسية والأمنية بعد, وهناك مخاوف من موجة نزوح جديدة اذا استمر الوضع الامني هناك في التفاقم على وقع الخلافات بين وزارة الداخلية والأجهزة الامنية والاستخبارية بعد تغلغل إيران فيها.
الخطاب السياسي حيال عملية السلام وضرورة قيام حل على أساس دولتين يستخدم المفردات الصحيحة: الأردن متمسك بحق العودة والتعويض, ولن يسمح بحل القضية الفلسطينية على حسابه أو بتهديد هويته الوطنية. لكن النخب ورجل الشارع في انتظار تعليمات لتنفيذ هذه المفردات التي تعكس أهداف استراتيجية لم تصدر لحسابات تكتيكية لتهدئة الخواطر المحلية.
تداعيات في كل الاتجاهات
الحكومات المتعاقبة تفقد مصداقيتها يوما بعد يوم بسبب آليات التشكيل. فقاعدة المشاركة في صنع القرار السياسي ضيقة تتركز بيد أقليّة معدودة. الاصلاح السياسي الداخلي, مفتاح أساسي في وجه التحديات, تأخر كثيرا. الغالبية لم تعد معنية بالمشاركة في الانتخابات المقبلة عام 2011 لأن نتائج قانون الصوت الواحد تزداد وضوحا يوما بعد يوم.
شعارات مثل "الأردن أولا" و "كلنا الأردن" انحرفت عن سكّتها لتصب في تفعيل عصبية "العشيرة والجماعة والعائلة أولا والوطن أخيرا". أحزاب سياسية متناحرة مرتبطة بأشخاص غير فاعلة, بما فيها التيار الاسلامي, الذي لم يفلح في بلورة برامج وطنية تفصيلية تخرج عن شعار "الإسلام هو الحل".
إعلام مرعوب مع بعض الاستثناءات هنا وهناك. إعلام بديل غالبيته تسعى الى تشكيل الرأي العام بطريقة موتورة, مصلحية وشخصية.
مكافحة الفساد وكف يد العابثين بالمال العام تبدو انتقائية وغير فاعلة في وقت تفوح رائحة المحسوبية والاعتداء على المال العام فيما يخلط مسؤولون بين البزنس والمنصب الرسمي.
المفارقة أن نصف سكان المملكة يرددون صباح مساء "عائدون عائدون", لكن إذا عرض عليهم شخص حق العودة أو أكد عليه قالوا عنه "عنصري".
كل تلك النقاط تتطلب مراجعة شاملة تخرج عن حدود تغيير الاشخاص في المواقع الحساسة والمفصلية, وتشكيل فرق عمل لنفض الغبار وتنفيذ توصيات لعشرات الدراسات الاستراتيجية, وغيرها بما فيها الأجندة الوطنية, وتحديدا بشقيها السياسي والاعلامي.
لا يحتاج الاردن إلى فرق عمل لإعادة اختراع البارود الوطني. بل يلزمه التعامل مع تحديات القرن الواحد والعشرين بأسلوب مختلف عما كانت عليه الامور حين نشأت الدولة الاردنية مطلع القرن الماضي على أنقاض الجمود والرجعية التي زرعها الحكم العثماني.
الاردن بحاجة لأسلوب واليات عمل ونهج واضح لا يتذبذب بين مدارس فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية متناقضة ومجربة.
الاصلاح السياسي يفترض أن يقوم على نظام انتخابي عصري وواضح, وقانون يشجع قيام الاحزاب السياسية وتعزيز دور النقابات المهنية, وإجراءات واضحة تنسجم مع الهدف الأكبر. يتبع ذلك برنامج اصلاح اقتصادي وقضائي مدعوم بفضاء أمني يعمل فيه كل جهاز حسب اختصاصه - عسكري, أمني ودركي.
سابقا, كانت غالبية الاشكالات خارج المدن الكبيرة وداخلها تحل بالحوار من خلال أذرع الدولة على الارض وبوساطة أهل الخير من وجهاء محليين كانوا "يمونوا" مقابل "وجاهات" يمنحهم إياها قربهم من الدولة التي تهيىء لهم خدمات وتسهيلات وهدايا, تبدأ بالعباءة مرورا بالمسدس وانتهاء بالسيارة.
الاصلاح السياسي يجب ان يبدأ من النقطة التي انتهت إليها العصبية باختلاف أنواعها اليوم ومن خلال التركيز على تكافؤ الفرص والعدالة للجميع. ففي الدولة الحديثة الجامعة تكون المرجعية الوحيدة سيادة القانون بعد التعامل مع تداعيات عملية اصلاح شامل تعيد تنظيم أسس علاقة الدولة بالمواطن.
رخص اقتناء السلاح الخاص يجب أن تمنع مع منح استثناءات لمن يسكن على سفوح جبال لا تصلها قوات الامن. فالولاء للدولة الاردنية وليس للعشيرة او للمجموعة. وخير مثال على ذلك الاحداث المتلاحقة من عجلون مرورا بمأدبا والطيبة وبلدة أمرع بلواء فقوع شمال محافظة الكرك. يجب سحب المسدسات والاسلحة والرشاشات من بين أيدي المواطنين, وغالبيتها غير مرخص قبل ان تندلع معارك أكبر.
ملف العلاقة مع الاخوان المسلمين بحاجة الى مراجعة شاملة كحال سياسات اقتراض الدولة الداخلي والخارجي. عملية انتخاب رئيس مجلس النواب وتشكيل لجان المجلس بحاجة الى مراجعة شاملة, وكذلك القطاع الاعلامي وغيره.
عكس ذلك يكون التقهقر والعودة الى الوراء في مناحي الحياة العامة والخاصة, والخضوع لعوامل خارجية تغذي الفتيل بينما هناك أكثر من طابور خامس على استعداد لإشعال فتيل التوتر والتجاذب والعبث بتناغم النسيج الوطني لأتفه الاسباب.0
نافذة
المفارقة ان نصف سكان الاردن يهتفون صباح مساء »عائدون عائدون« ولكن عندما يؤكد أي مسؤول على هذا الحق يوصف بالعنصري!!
rana.sabbagh@alarabalyawm.net