«أُم المعارك» مُندلعة على أشُدِّها الان في لبنان, بين من أَعلَن الحرب على الفساد، ويرى فيها مَعبراً ومساراً لإعادة بناء الدولة والحؤول دون انهيارها, تحت وطأة المديونِية العالية ونهب وهدر المال العام والسرقات وهيمنة المصالح الفئوية والجهوية والشخصية, وبين من يرى في» توقيتِها» (..)مجرّد كيد سياسي وتصفية حسابات قديمة, تفوح منها رائحة الإنتقام السياسي في ظروف تبدّلَت فيها موازين القوى.
وأيا يكن المنحى الذي أخَذته وستأخذه المواجهات الإعلامية المُحتدمة بين أنصار وجمهور الطرفين, والمدى الذي يمكن ان يصله التراشق الحاد والتصريحات المنفلتة المحمولة على بُعد طائِفي ومَذهبِي, وبخاصة لدى الطرف الذي لجأ لسلاح قديم كهذا, ما تزال له مفاعِيله واستقطاباتِه على الساحة اللبنانية المُحتقِنة, تماما كالقنبلة المُتكْتِكَة التي تُسمع دقاتها بوضوح. فإن ما لجأ اليه تيار المستقبل على وجه الخصوص, في دفاعه الإعلامي، الإنشائِي المضمون والتحريضِي والمذهبي عن رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (الذي لم يتم اتهامه أصلاً)، يدفع للإعتقاد بان مسألة مكافحة الفساد التي تَرفَع شعاراتها جهات عدة في لبنان وفي ساحات عربية اخرى,ليس سوى يافطة يتم حملها في المناسبات, لِيُعاد طَيّها وايداعها المخازن بعد ذلك, انتظارَاً لفرصة اخرى يعاد استخدامها على نحو لا يتعدّى المشارَكة في مهرجانات كلامِية, يُقال فيها كل شيء وأي شيء بلا خِشية من مُساءلة أومُحاسبة لاحِقة, كما حدَث ويحدُث في لبنان منذ ربع قرن.
أسباب اندلاع المعركة التي لم تضع أوزارها–ولا يبدو انها ستضعها بعد -..، تنحصر في عودة الحديث الجاد والمسنود بالوثائق والمُستندات بحثاً عن «11» مليار دولار, يُقال إن فساداً شاب عملية توثيقها وصرفِها وأن معظمها تم هدره وإساءة التصرّف به, بل وهناك ما يُثبِت (وفق ما يقول القائمون على الامر, وهم اللجنة المالية في مجلس النواب ووزارة المالية وخصوصا المدير العام للمالية الذي عقَدَ مؤتمراً صحافيا غير مسبوق كُشفَت فيه معطيات وأرقام لم يستطِع أحد من وزراء المالية السابقين, دحضها او حتى الرد عليها من قريب او بعيد.. حتى الآن).
يدور الحديث بالتحديد عن السنوات المحصورة بين الاعوام 2005-2008 وما تلاها, حيث تشير الاطراف المُنخرِطة في «معركة» مكافحة الفساد, ان أحداً لا يعرف كيف أُنفِق مبلغ 11 مليار دولار خلالها والى اين ذهبت؟.
وهؤلاء يَدْعون للذهاب الى القضاء كي يحسم المسألة ويقول كلمته في هذا الشأن, ويقولون إنهم لا يستهدِفون أحداً بعينه أو تياراً سياسِياً بذاتِه, وهناك منهم مَن يَرفَع صوته عالياً ويقول أمام الكاميرات: إن كل ما يطرحه هو مستندات ووثائق رسمية, وإن سلكَتْ مسارها القانوني الصحيح فإنها ستُؤدّي (وفِق توقعاته) الى محاسَبة رؤوس كبيرة تُمارِس السياسة اليوم».
في مقابِل هذه المواقف التي تبدو واثِقة ولا تنقصها الجرأة, هناك مَن يقول: إن ما يجري الآن هو» محاوَلة للإنتقاص من الموقف السياسي والإقتصادي لرئيس الوزراء الأسبق فؤاد السينورة, ودوره في إقرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان,(عِلماً ان أحداً لم يتّهِم السينورة مباشرة بالمسؤولية عن هدر هذا المبلغ المالي الضخم)،بل إن تيّار المُستقبل الذي تبنّى المزاعِم السابِقة, مضى الى القول:انه استهداف ومحاولة لتشويه السمعة وضرب صورته السياسية, وينطوي اكثر على انتقام وتشَفٍ من كامل دوره السياسي. ولم يتردّد تلفزيون المستقبل الذي يملكه رئيس الحكومة سعد الحريري في وصف فؤاد السنيورة: بأنه «تيار المستقبل نفسه وهو الحزب والمَوقِع, وهو رئاسة الحكومة وهو(الطائِفة) التي يُمثِّلها إذا شئتم».هو إذاً تصويب واستخدام مباشِر للسلاح الأمضى والأفعل في لبنان, الذي يُشهَر في وجهِ محاولة إصلاح «دولة» يقولون كُلُهم:انها تقِف على حافة الانهيار, وان الفساد وهدر المال العام ونهبِه هو السبب الرئيس لهذه الحال البائسة.
سلاح الطائِفة والمذهَب, والذي – من أسف – أشهرَته دار الافتاء في لبنان, عندما اعتبرت"شخص» فؤاد السنيورة «خطاً أحمر", فيما كان بمقدورها وباقي الذين انبروا للدفاع عنه – بصرف النظر عن صحة الإتّهامات ودقتها وصلابة وثائقها – ان تقول: لأي متهم انه بريء, ما لم يثبت العكس, وان قرينة الشك دائماً الى جانبه. والقول الفصل في النهاية هو للقضاء (الذي يزعُم الجميع انهم يثقون بنزاهته). وبذلك تكون– دار الفتوى وأي مرجعية دينية او مذهبية اخرى – اسهَمَت في ترسيخ مبادئ العدالة وسيادة القانون, بدل اللجوء للشحن الطائفي والتحريض المذهَبي وتوتير الشارع المُنهَك والمُفقّر والفاقد الثقة بالطبقة السياسية, التي تُحكِم تحالفاتها المعروفة, قبضتها على مفاصل الدولة واقتصادها وحيوات ومصائِر شعبِها.
kharroub@jpf.com.jo
الرأي