قرارإنساني بدلالة سياسية فائقة
د. محمد أبو رمان
29-08-2009 06:06 AM
موافقة الحكومة الأردنية، بتوجيه من جلالة الملك، لزعيم حركة حماس، خالد مشعل، بدخول الأردن لتقبل العزّاء بوالده، هو في صميمه قرار إنساني محض، لكنه يحمل دلالة سياسية تفوق الاعتبارات الإنسانية بكثير!
بعيداً عن ملف العلاقة مع حركة حماس (وهنالك ملاحظات عديدة بهذا الشأن)، فإنّ هذا القرار بمثابة رسالة مهمة وحيوية، تحمل تأكيداً على متانة التقاليد السياسية الأردنية، التي تميّز هذا البلد بصورة استثنائية عن غيره، وتتمثل في الدرجة العالية والمرتفعة من التسامح العام، والتأكيد على فصل الخلافات السياسية عن أبعادها الإنسانية والشخصية.
في الأردن، يتغلب الإنساني على السياسي بامتياز، ولم يسبق للدولة ولا حتى للنخبة السياسية الأردنية العريقة أن اعتمدت الأساليب الدموية والبشعة في تفاصيل الحياة السياسية. وهو تقليد ينبغي لنا أن نتمسّك به بقوة، فهو بمثابة صمّام أمان رئيس للأمن الوطني والاستقرار السياسي الداخلي.
"البعد الإنساني" في السياسة الأردنية أصبح سمة خاصة بهذا البلد، تضعه باستمرار في أعين الأشقاء العرب والمواطنين في مرتبة مرتفعة، وتجعله موضع احترام وتقدير.
يمكن التقاط "الاستثنائية الأردنية" في المبادرات الملكية المتتالية، التي تقدّم دوماً رسالة حميمية تجاه الشرائح الواسعة من المجتمع، بخاصة من الفقراء والمحرومين، كغذاء المدارس وكساء الطلاب الفقراء، وقوافل الخير للداخل والخارج، والمكرمات المتتالية التي تُعين الناس على مواجهة قسوة الحياة اليومية.
الموقف الأردني أمس، يذكّرنا بعشرات المواقف الأخرى، منذ أن كان الراحل الحسين يطلق سراح من تآمروا على حياته، ويعيدهم إلى وظائفهم ويدمجهم في مؤسسات الدولة، إلى "العفو العام" عن السجناء في قضايا أمنية وسياسية، إلى لفتات في غاية الذكاء، كما حدث عندما اصطحب بسيارته المعارض السياسي الوطني ليث شبيلات من السجن إلى والدته.
ولعلّ في سجل العلاقة مع حركة حماس، تحديداً، قصصا إنسانية مؤثرة وصادقة، عندما وضع الملك الحسين معاهدة السلام في كفة، وإنقاذ حياة خالد مشعل في الكفة الأخرى، بعد محاولة اغتياله في عمان (1997)، مع إطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين.
قبل ذلك، كان الحسين يعود بموسى أبو مرزوق من سجنه في الولايات المتحدة إلى عمان، بعد وساطة شخصية، ويستقبله في قصره مع زوجته وطفلته الصغيرة، كما يوثق ذلك د. بسام العموش في كتابه "محطات في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين في الأردن".
هنا الأردن، لا مجال للاغتيالات ولا المواجهات الدموية، ولا التصفيات الجسدية، بل ثمة أريحية وتسامح وعلاقات حميمة وحياة اجتماعية خصبة تطوي في رحمها الخلافات السياسية كافة.
التذكير بهذا التقليد الأردني العريق مفيد لبعض النخب السياسية والإعلامية التي تجاوزت هذا التقليد الوطني، لعلها تعود إليه وتبتعد عن الشخصنة وسياسات الاغتيال المعنوي.
عزاؤنا كبير لخالد مشعل برحيل والده. ولعلّ صفاء هذه المناسبة الإنسانية يلقي بظلاله على صفحة العلاقات السياسية بين الدولة وحماس.
محمد أبو رمان