الكشافةُ .. الغرسةُ الأولى في أيامِ الزمنِ الجميل
أ.د. خليل الرفوع
09-03-2019 01:03 PM
أقرأُ قصيدةَ عبْدَةَ بن الطبيب بُعَيْدَ مشاركته في فتوحات العراق وانتصار العرب في موقعة القادسية التي أنهت دولة الفرس شرقًا ، ولم تشغله نشوة النصر وخزائن كسرى عن حنينه إلى البادية ، ومطلع قصيدته تلك التي أعدُّها من عيون الشعر العربي كله : " هل حبلُ خولةَ بعد الهجرِ موصولُ " ، فيأخذني أحد أبياتها إلى مرابع الذكرى وأيام الزمن الجميل ، يقول فيه متذكرًا صباه الآفل :
ولِلأَحِبَّةِ أَيَّامٌ تَذَكَّرُها ولِلنَّوَى قبلَ يومِ البَيْنِ تأْوِيلُ
ويحملُني الزمن عبر معارج الشجى إلى غرسة الرجولة الأولى في الحياة وهي : ( الكشافة) التي ألفيتُنِي يومذاكَ أحدَ أفرادِها في الصف الثالث الإعدادي ( التاسع الآن) ، وبقيتُ فيها ثلاث سنينَ طالبًا نشيطا فمساعدًا لعريف الطليعة ثم عريفا لطليعة الفاروق التي كانت من أنشط الطلائعِ ، وختمتُ الحياةَ الكشفية في أن أكون بعد منافساتٍ واختبارات عسيرة اجتزْتُهَا في وزارة التربية في عمان أنشطَ طالبٍ في مدرسة بصيرا الثانوية وتربية لواء الطفيلة فتربية محافظة الكرك ، وكانت الطفيلة يومئذٍ أحدَ ألوية الكرك عام 1985م ، وكانت الجائزة رحلةً إلى ضفافِ بُحَيْرَةِ مرْمَرَةَ على البحر الأسودِ في تركيا عشرين يوما ، وبها عرفت أن هناك دنيا وحياةً وعالمًا غير قريتي بصيرا التي تمددَتْ في ذاكرتي أرضًا وسماءً فأُحْصِرْتُ في شعابِها ، وقد مثل الأردن في تلك الرحلة خمسة طلاب أذكر منهم رامي شاكر العزب عن السلط ، ونضال الحمادين عن معان ، وإبراهيم الدويري عن إربد وإبراهيم ... من الزرقاء ، وقد كان اللقاء تجمعًا كشفيا عالميًّا بتنظيم من الهلال الأحمر ، فكانت الرحلة قبل التوجيهي مكرمةً وبوابةَ الفتح الأول في أرض الروم ، ومسرى فتنة الروح ، ومعراجَ طفولة الجسد ، والخيطَ الأبيضَ الذي تولَّدَ في عقل الفتى من كهفِ خيطه الأسود.
أيامُ المدرسة أجملُ عهودِ الحياة ، وأكثرُها صبابةً ووجدًا أيامُ الكشافة ، إذْ يقسم الطلبة إلى طلائع ، كلُّ طليعة تتكونُ من خمسة أفراد أو ستة ، ويبدأ عمل كل طليعة من اليوم الأول لتسجيل الأسماء ، ولهم لباس خاصٌّ كان أيامنا بنطالا سكنيًّا وقميصًا أزرقَ سماويًّا ، وكل صباح مدرسي تنهض طليعةٌ برفع العلم في طقوس حركية منظمة تثير انتباه جميع الطلبة والأساتذة ، وأغلبها حركات عسكرية حفظناها عمليًّا في التدريب الأول ، وتزداد النشاطات الكشفية بدءًا من توقف الشتاء ودخول فصل الربيع إذ تبدأ الرحلات الخلوية إلى مناطق بعيدة عن القرية ، فيقوم قائد الكشافة ومساعدوه من المعلمينَ بالانطلاق قبل الطلبة المقسمين حسب طلائعهم ، فيضعون علاماتٍ وأسهمًا على الأرض وفي شقوق الصخورعلى امتداد طرق وعرة ملتوية ، وعلى الطلبة الاسترشاد بها للوصول إلى نقطة النهاية مكان التجمعِ ، وأجملُ ما في الكشافة المخيمُ الكشفي الذي يقام نهاية كل عام في منطقة قريبة من المدرسة ، ويعيشُ الطلبة في خِيَمٍ على شكل دائري تتوسطه سارية يُرْفَعُ عليها علما الأردن والكشافة ، وعليهما حراسة دائمة ليلا ونهارا ، وكان التحدي بين الطلائع على أشدِّه ، وأخطرُه أخذُ العلمين من على السارية خِلْسَةً أو في غفلة الحرس ، فيعدُ ذلك تقصيرا يستوجبُ عقوبة من القائد ومساعديه ، ويبدأ النشاط صباحا برفع العلم ثم التفتيش على الطلبة وخيمهم ثم الفطور فالمحاضرات العلمية الثقافية ثم وجبات الغداء التي غالبًا ما تكون (مقلوبة أو مكمورة) ، وهما الطبختان اللتان يتقنهما الطلبة بالوراثة الكشفية ، ثم استقبال الضيوف والمسابقات والتحضير لليلة السَّمَرِ التي تبدأ بُعَيْدَ صلاةِ العشاء إلى ساعة متأخرة تبدأ بتلاوة آياتٍ من القرآن ، ثم مشاهد تمثيلة مسرحية متنوعة أغلبها ترفيهي تثقيفي يعده الطلبة أنفسهم ، وفيه تظهر مواهبهم في التمثيل والغناء والتقليد والمصارعة ، ويشهدُ ليالي السَّمَر أبناءُ القرية الذين ينتظرونها في مواسمها كل عام ؛ فيتحلقون حول موقد أشعلت نارُه في بدءِ الحفل ، وهي ليالي العمر بالنسبة للكشافة ، وبعد ليالٍ ثلاثٍ يُنْهَى المخيمُ عصرًا بحفل وداعي انضباطي حزين مؤثر لفراق صحاب عاشوا إخوةً معا أحلى الساعات .
الكشافةُ تزيد في الذاكرةِ الشوقَ والحنين لأيام خلتْ ، لكن تذكُّرَها يبعث النفس من خمودها لتستقرَ على راحة العمر متوازنةً بين ماض لم يعد إلا حُلُمَا وبين حاضر قد فتك به الزمنُ بُطْئًا وسكينة ووقارًا ، نعم إنها الغرسةُ الأولى في مدارجِ الرجولة ؛ لأنها مفتتحُ الذاكرة ومهدُ عنفوان الشباب وانبلاجُ مثاقفة الآخر ، ولأنها انضباط المد والجزر في حركية الصعلكة المتوهجة ، فالكشافة في أساسها حركة شبابية تربوية تطوعية عالمية غير سياسية ، هدفها تنمية الشباب بدنيا وثقافيا ، ويتضمن قَسَمُهَا أن يبذلَ الفردُ جهدَه بصدق نحو الله ثم الوطن وأن يساعد الناس في جميع الظروف ، وقد تعلمنا من الكشافة الكثير من القيم والأخلاق والجرأة ، إن كان على المستوى البدني النفسي أم على مستويات أخرى ، كالنظافة والاندماج وتنمية المواهب وقدرة التحدي والاقتداء بالكبار واكتساب مهارات القيادة والعمل الجماعي والتفكر بقدرة الله وغيرها من الموجبات .
ذلك زمن قد ولَّى وبات ذكرياتٍ تتهادى كلما اُسْتُدْعِيَتْ للبهجة والفرح ، كان زمنًا قد خلا من موبقات هذا الزمن وقحطه العاطفي وتعقيده الفكري ، كان الحياءُ سمةً والخجلُ سمتًا والطيبةُ أصالةً والشبابُ رجولة مبكرةً ، لم يتغير الزمن بل تبدلتِ القيم واَنْتُـزِعَتِ البركة من القلوب والنقود ، وتحولت العائلة بتآلفها إلى فردية مفرطة في أنانيتها وتوحشها ، لا ندري هل أقفرتْ مدارسُنا من الكشافة أم الكشافة أقفرت من مدارسنا أم أقفر الوطن منهما معًا ، فلم يعد للزمن جمالُه وعبيرُه .