كانت دمشق أو (الشام كما درجنا على تسميتها) عند إقامتي فيها للدراسة في جامعة دمشق أوائل الستينيات الفائتة، تبعث على الارتياح وتشعر ساكنيها بالسرور، إذ كانت نظيفة هادئة مرتبة تزين شوارعها بالأشجار وتنبعث من حدائقها رائحة الياسمين ويشرب الناس فيها من عين الفيجة ماء نقياً متميز المذاق. وكان لدمشق في نفوس الأردنيين مكانة خاصة بسبب ذاك السرور والارتياح المتلازم، تدفعهم لزيارتها في كل مناسبة وموسم، وهو الشعور الذي ما يزال الأردنيون يكنونه للشام، بمعزل عن أجوائها السياسية وبعيداً عن نهجها العقائدي، وقد تربينا هنا في هذا البلد على أن نعيش ونفكر ضمن الإطار العربي والمشاعر القومية منطلقين من ظلال المملكة الأردنية الهاشمية التي نحب.
كانت سوريا آنذاك تدخل مرحلة جديدة سماها حزب البعث الحاكم مرحلة التحول الاشتراكي، إذ أنه تولى الحكم هناك بانقلاب عسكري يوم 8 آذار 1963 قلب فيه الحكم ذا الطابع الرأسمالي، وانفرد بالحكم دون غيره من القوى اليسارية والقومية، ولم تتأثر نظرة الأردنيين إلى دمشق خاصة وسوريا عامة تبعاً لنهجها السياسي أو إطارها العقائدي، تلك النظرة التي يحكمها الوجدان وتتحكم بها المشاعر إخوة وأهل وجيرة.
وعندما كانت سوريا تشهد أحداثاً دامية تدميرية بين عامي 2012 و 2018 في حراك ما سمي بـ"الربيع العربي»، كان الأردن ملكاً وحكومة وشعباً يتابع مجريات الأحداث بالشقيقة الجارة الملاصقة، وظل يدعو سياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً إلى تهدئة الحراك الشعبي من أجل الإصلاح بالحكمة والتعقل، بعيداً عن الحديد والنار وتجنباً للقتل والتدمير، وفي نهج عربي سياسي واضح يوصل إلى التفاهم والانسجام والتعاون بين مختلف القوى الحية المخلصة في البلاد.
فإذا كان لا بد للإنسان مواطناً وشعباً ونظاماً أن يخطئ، فإن من الصواب بالمقابل أن يستفيد الإنسان من الخطأ، حتى يصوب مسيرته ويقوم سلوكه ويغير من منهجه، أما إذا ظل يكرر الأخطاء ويراكمها، بدون حساب وبدون محاكمة ذاتية فردية أو جماعية واعية، وبدون أخذ الدروس والعبر، فإن ذلك يفقده الرغبة الصادقة في تحسين نفسه، لا بل ويساعدها على الانحدار التدريجي نحو الهاوية الاجتماعية، التي لا يجد فيها من يساعده على إزالة تعثره، ولا يصادف من يتسامح تجاهه بما أخطأ وبما أساء. وخلاصة المعادلة، أن المجتمع في بنائه وتنظيمه وتنميته وتطوره وتجدده، لا يستغني عن حنكة الشيوخ، ولا عن حماسة الشباب، فهي كلها عقول للتفكير، وسواعد للبناء، لا تستبعد ولا تعطل ولا تهمل في المجتمع، الذي يتسع للجميع، ويتعاون فيه الجميع، من اجل سعادة المجموع.
ها هو الأردن اليوم يتجه بانظاره إلى سوريا ويفتح قلبه لدمشق من جديد، ليمهد ساحة واسعة مفتوحة للتعاون والتبادل بين الشعبين الشقيقين، في أبعاد اجتماعية ثقافية اقتصادية، تزيل الجمود عن لهفة التفاعل وتعزل التردد عن معدن التجاوب، فالمصلحة واحدة والغد مشترك والتضامن مطلوب لإعلاء البنيان، وأي عاصمة أهل لهذا الدور أكثر من عمان؟، وأي جار مؤهل للمبادرة تجاه سوريا أكثر من الأردن الهاشمي؟
dfaisal77@ hitmail.com
عضو المكتب التنفيذي لحزب الإصلاح
الرأي