ثمة قصة في التراث الياباني "الهايكو" مفادها أنه عندما نزل الحكيم من الجبل إلى المدينة تجمع الناس حوله مؤملين أن يسمعوا منه نصيحة أو موعظة، وبعد صمت وانتظار، قال: "تغلي الماء. تنقع الشاي. تشربه. هذا ما تحتاج إلى معرفته". ثم مضى وترك الجمع الحاشد مصدوما!
القصة تعني ببساطة أن الحكمة والمعرفة (الحكمة أسمى من المعرفة) متاحة في الفضاء والطرقات.. وفي أعماق الإنسان، وكل ما يحتاجه الإنسان هو امتلاك مهارة الإصغاء والاستماع ليلتقط الحكمة، القيادة أيضا هي القدرة على الاستماع، والقائد الناجح هو القادر على الاستماع، لأنه باستماعه يجمع إلى حكمته وخبراته حكمة وخبرات الآخرين، ويجعل علاقات العمل أكثر قوة ونجاحا، والتسويق وتحقيق الأرباح هو محصلة الاستماع، والمسوّق الجيد هو الذي يستمع وليس الذي يتكلم، لأنه باستماعه يعرف احتياجات الناس وتطلعاتهم، فيضع استراتيجيته للتسويق على هذا الأساس.
يقول مايكل هوب مدير مركز القيادة الإبداعية، أن تكون قائدا فاعلا يعني أن تكون مستمعا فاعلا، وأن تكون مستمعا فاعلا يعني ببساطة أن تتمتع بمهارات الانتباه، والتمهل في الحكم على الأمور، والتفكير العميق، والتوضيح، والتلخيص، والمشاركة.
تفهم كيف يرى الأشخاص الآخرون العالم، ذلك بداية التعلم والتقدم، ففي ذلك عمليات مراكمة واسعة للمعرفة، بل هي أسرع وأفضل وسيلة للمعرفة، ولكن برغم بساطة هذه الفكرة ووجاهتها فإنها تكاد تغيب وتُنسى في غمرة العجز عن الاستماع، والانشغال بالذات انشغالا يمنع من التأمل والسؤال والتفكير.
وفي الاستماع أيضا ثراء روحي عميق يرتقي بالإنسان، وليس مجرد علاقات عامة، ففي شعور الناس بالتواصل يبدأون بالتفكير معا، ويطورون معا أفكارهم، ومن اللافت جدا أن العلم المتحقق بهذه المشاركة يفوق كل المداخل الأخرى تقريبا في التعليم وتحصيل المعرفة والخبرات "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه".
نواجه في ثقافتنا المجتمعية ركاما من الخرافات التي ترى في الاستماع ضعفا أو موافقة، أو تناقضا مع المبادرة، أو يعطي (الاستماع) انطباعا بالعجز وعدم وجود إجابات، أو أن القائد يجب أن يكون هو المتكلم أغلب الوقت.
الاستماع عملية بحث عميق متواصل سواء مع الذات او مع الآخرين عن الصواب والحكمة والجديد من المعارف والأفكار، ومن يعجز عن تحويل صمته أو مشاركته الآخرين إلى تزود بالمعرفة والخبرات الجديدة يغرق في الوحشة والخواء.
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo