المجتمع العربي في سمته العامة هو مجتمع قَبَليّ و يتم وصفه بأنه (جَماعيّ التوجهات) من منظور علم الاجتماع، ولعبت القبيلة دورًا أساسيًا في تشكيل الهوية و إدارة القوى و الصراعات عبر تاريخ العرب والمسلمين، وما زالت تُعتبر من المحركات الرئيسية للتغيير وميزان الحسابات الاجتماعية.
تتمثَّل المعضلة في لحظة تَشكّل الدولة الحديثة، عندما تصطدم موازين القوى التقليدية مُمَثّلةً بهيكلها الاجتماعي ، القبيلة، والتي ترى أحقيتها بالشرعية والسلطة، مع أو ضد الشكل المستحدث للقوى المُتمثّل بهيكل الدولة الحديثة والتي تحتكر مع أجهزتها القوة والسلطة المستمدة من شرعية الوجود المتأتية من الشرعية التأريخية أو الإنجاز أو غَلبة الثورة أو شرعية الانتخاب أو غيرها من مصادر الشرعية المختلفة ذات الجدليّة غير المنتهية.
استطاعت القبيلة العربية تجاوز محنتها مع منظومة الدولة الحديثة بعد انتهاء الخلافة العثمانية و البدء بتحرّر أقطار البلاد العربية، حيث تم إعادة إنتاج العشيرة لتصبح شكلًا آخر هو (دولة القبيلة)، حيث يتحوّل شيخ العشيرة إلى حاكم، ويتحوّل الفارس إلى قائد عسكري، ويبقى (القطروز و القهوجي) عاملًا أو خادمًا في وظيفة عامة أو خاصة، وبهذا الشكل تم إعادة إنتاج الذات بصيغ أكثر ملاءمة لمواجهة العالم و تحقيق القبول.
العشيرة، كحقيقة اجتماعية، ينبغي لها أن تتشكّل كنظام دعم اجتماعي، و حاضنة اجتماعية لأفرادها، بحيث تقوم بدور الجمعيات الخيرية وجمعيات العون والتكافل الاجتماعي التي نراها في العالم الحر والمتقدم اليوم، ولكن ليس أكثر من ذلك، فتحويل الدولة الحديثة لبنية قَبَليّة تنشأ عنها السلطات والنفوذ والأفضليات هو تناقض كامل لمفهوم المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان، ولعل أحد أسباب حالة الفشل العربي في بناء نموذج قابل للحياة و عصري سياسيًا واقتصاديًا هو التفريق بين السكان علی أسس عنصرية و طائفية و مذهبية و تعبئة الناس في أطر غير حضارية، الأمر الذي يُحدث شرخًا طوليًا وعرضيًا في تركيبة المجتمع والدولة وأدوار كل منهما.
الدولة الأردنية، ومنذ تأسيسها، وبِحُكم المسار التأريخي للتَشكّل، قامت على أسس التنوع، وقبول الآخر، وحظي فيها "الأقليات" منذ بداية التأسيس بمكانة تُعزّز هيكل الدولة المدنية الحديثة، فالمتصفح لأسماء القيادات السياسية والحكومية والوزراء منذ 1921 يجد بوضوح مستوى التنوع و حجم التمثيل الشامل للناس، كل الناس، (مسلمين و نصارى و شراكس وشيشان ودروز و بدو وفلاحين و شوام) في فسيفسائية تقفز وتتجاوز عقليّة الغلبة والأكثرية، ولا ندري هل كان لذلك دور في حالة (الرّدة) التي أعقبت ذلك لاحقًا أم لا.
قانون الصوت الواحد لانتخاب أعضاء مجلس النواب (في الأردن و في بعض الدول الأخرى العربية) جاء على نية إعادة توجيه الأغلبية بما يفسح مجالًا تفكيكيًا لإرساء قيم جديدة قد تتعارض مع توجهات الأحزاب والعشائر معًا، حيث أن منح الناخب صوتًا واحدًا فقط من شأنه أن يذهب بهذا الصوت للمرشح ذي القرابة العشائرية و يحرمه من الذهاب لأي مرشح آخر كالحزبي مثلًا، الأمر الذي حرم الأحزاب من الوصول والتمثيل في البرلمانات، ثم لاحقًا و بطبيعة التنافس الداخلي وبسبب التزاحم على الزعامة القبلية، يتم التنازع على الصوت الوحيد للناخب عندما يترشح عدة أفراد من ذات القبيلة الواحدة، فيحدث أن تتفسخ العشيرة بناءً على صراع داخلي يشبه التنازع على مشيخة القبيلة سابقًا.
حظيت العشائر تقليديًا بامتيازات وافرة (مثل الأراضي و المناصب) دفعت بغالبيتهم إلى القبول بالشكل الجديد للسلطة التي تحتكرها الدولة العربية الحديثة، و اعتقدت بأن تلك الامتيازات سوف تُعزّز الحضور القبلي في بنية الدولة الجديدة، ولكن لاحقًأ، وبسبب تبدل خريطة القوى الاقتصادية والاجتماعية، وبسبب أفكار الليبراليين الجدد، فقد وجدت القبيلة نفسها مُغيّبة عن الفعل العام بشكل لا يتناسب مع التوقعات والآمال، فكانت الردة والبحث عن الذات باستحضار الماضي وصيغ النفوذ فيه.
ظاهرة البيانات العشائرية في الأردن لا تخرج عن سياق هذا الاستعراض الموضوعي، فبمقدار ما تتناوله تلك البيانات من صيغ إيجابية واعدة وعصرية ومطالب مشروعة تُعزّز توجهات الشفافية والعدالة و إعادة توزيع الثروة و تحسين الواقع المعيشي والخدماتي للناس، فإنها بذات الوقت تنطلق –وللأسف- من (نحن) الموغلة في الذاتية، و ترسم أطرًا إقصائية في ثناياها الخفية، وكأن تجربة (قرن من الزمن) لم تكن كفيلة بزرع مفهوم الدولة في بواطن الوعي للأغلبية.
إذا كان الأردن يمر بمحنة اقتصادية خانقة، و ضغوط دولية لإجباره على الرضوخ لصيغ جاهزة، و أزمة ثقة بين الناس و السلطات، فإن هذا ليس معناه استبدال كينونة الدولة بالفوضى أو أية صيغ رجعية عفى عنها الزمن. الاستمرار بإلقاء اللوم على الآخر و تبرأة النفس من الخطيئة هو أمر غير واقعي، نحن جميعًا شاركنا ولو جزئيًا بالوصول لما آلت له الأمور، و ينبغي علينا جميعًا تحمّل المسؤولية في الإصلاح، ضمن أدوات مدنية وسلمية وعصرية وإيجابية، و أول حلقة في ذلك تتمثل في انتخاب برلمان على أسس جديدة من شأنها تعزيز الحضور الحزبي و الشخصيات الوطنية المعتبرة.
إذا كانت البيانات العشائرية في إطار الدفع بالمشروع الوطني الإصلاحي قدمًا فإن ذلك أمر جيد، ولكن لا أحد يتمنى أن تكون في إطار تحقيق مكاسب و امتيازات خاصة.