للوهلة الاولى سيبدو الأمر غريباً بالنسبة للحكومة وربما المجتمع تلك الظواهر التي تترسخ في عقول الأجيال الصاعدة تجاه "العمل" وأهم تلك الظواهر رفض الفرص المعروضة (كما يتضح من الأخبار التي تنشر) ، وقلة الإنتاجية (كما أظهرتها تقارير رسمية).

الشباب يريدون العمل، قاموا بمسيرات مشياً على الأقدام لمسافاتٍ طويلة .

في المقابل وزارة العمل تعلن وتتحدث عن فرص عمل - وهي حقيقية- بأعداد أكبر من أعداد الشباب الذين قاموا بالمسير من المحافظات والشباب المعتكفين على ابواب الديوان الملكي العامر.

هناك داعٍ كبير لدراسة هذه المفارقة العجيبة في ظاهرها ، لكنها المنطقية في جوهرها إن تمت دراسته بحكمة.

بقاء هذه الظاهرة و تصاعدها ، لن يكون من مصلحة الوطن ، بل علينا أن نتنبأ بخطورة هذه الحالة.

كثير من الأمور ينبغي الالتفات إليها ، بعضها سيستغرق وقتاً طويلاً مثل ترسيخ قيمة وقيم العمل في تنشئة الأجيال وسياسات التعليم.
وبعضها يستدعي إعادة النظر في الإدارة العامة ؛ مثل نظام الخدمة المدنية ، والمؤسسات التي يتم التعيين فيها خارج اطار ديوان الخدمة المدنية ، وقانون العمل والحد الأدنى من الأجور ، والضرائب على القطاع الخاص وغيرها الكثير.

الوقت لا يسعف الحكومة في الانتظار أو التركيز على هذه الحلول التي ستسغرق وقتاً طويلاً لتؤتي ثمارها وجدواها.

لكن السؤال وموضوع الساعة هو لماذا يرفض الشباب الفرص المتاحة التي تعلن عنها وزارة العمل ؟ ولماذا يرفض الشباب حتى الالتقاء بالوفد الحكومي الذي يذهب اليهم في محافظاتهم ليبحث معهم قضاياهم وتوفير فرص العمل لهم؟

الجواب بإختصار، وهو جزء من الأسباب،
١- الإمتيازات التي تمنحها بعض المؤسسات لموظفيها والتي تصل الى حدود لا يمكن تصورها قياساً بالفرص التي تعرضها وزارة العمل.
ومن هنا جاءت مطالب الشباب بتحديد الأماكن التي يريدون العمل لديها .

٢- عدم كفاية الرواتب للعيش الكريم من الوظائف التي تعرضها برامج و سياسات وزارة العمل او فرص العمل في القطاعات الخاصة. فمثلاً يرى البعض أن الراتب الذي توفره فرصة العمل المعروضة لن يكفي له للعيش او لبناء مستقبل، وان فرص العمل في القطاعات الخاصة في عمان لأبناء المحافظات لن يكفي لكلفة الوظيفة ذاتها ، أجرة سكن ومواصلات وغيرها من الانفاقات الطبيعية المعيشية.

وتزداد الأمور تعقيداً عندما نتكلم عن اغلاق مصانع وتسريح موظفين وعاملين وانخفاض حركة سوق العمل .

نحن أمام مشكلة حقيقية وأصبحت تنبيء بضرورة الرؤيا السليمة.

النقد للحكومة أو للشباب لن يكون ذا جدوى، فنحن ابناء وطن واحد ، حكومةً وشعباً ، وعلينا أن نفكر بالحلول ، لا أن نكتفي بتسجيل المواقف ورفع سقف العتاب والنقد لأي طرف. فالحكومة هي حكومة الوطن ، والشباب هم أبناء الوطن.

وهناك أجيال وأفواج جديدة ستصل كل عام الى مرحلة البحث عن العمل.

لقد تسببت سياسة التعيين في ديوان الخدمة المدنية في خلق اليأس عند الكثير ، لا أحد يضمن لنفسه ترتيباً و موعداً متوقعاً لتعيينه بسبب تغيير الدور ، طبعاً لدى ديوان الخدمة المدنية مبررات لذلك ، لكن الواقع يثبت أن تلك المبررات غير فعّالة.

لا السياسات العامة تساعد على انتعاش سوق العمل ، فالضرائب تضرب بعمق سوق العمل.
ولا السياسات الخاصة بالتشغيل تقنع الشباب بفرص العمل المتاحة ولا تساعدهم على تخطيط مسار الالتحاق بفرص العمل المتاحة.

دولة الرئيس أشار الى ضرورة الالتحاق بالفرص المتاحة و الاستفادة منها في تحقيق الخبرة و شق طريق الحياة العملية ، هذا كلام منطقي وصحيح ، لكن الأسباب أعلاه أصبحت تحول دون تطبيق هذا الارشاد من دولة الرئيس ، فنحن بحاجة الى اعادة تثقيف و تنمية التربية الذاتية لأجيالنا ، وبحاجة لتوسيع مساحة رقعة الانتاج والعمل لتستوعب أفواج الأجيال الناشئة.
وبحاجة لترسيخ مفهوم الانتاج باليد العاملة ، مصانع ، مزارع ، حرف .

وبحاجة لنشر إحترام قيمة العمل والعامل في المجتمع ، أياً كان العمل ما دام هو في إطار القانون. وانه كرامة ومركز مرموق ومنصب رفيع وسبيل يكفي لعيش كريم ومستقبل آمن.

ينبغي ان لا تكون هناك فروقات هائلة في الامتيازات للموظفين بين المؤسسات وخاصةً تلك المؤسسات التي تمتلكها الحكومة أو تساهم فيها.
ينبغي أن يكون الراتب كافياً لتأسيس الحياة للشباب ولعيش كريم ومستقبل آمن.
ينبغي اعادة الانتعاش لأسواق العمل والمصانع والأرض والانتاج.
الوطن ومستقبله أغلى من أي أسباب تؤدي الى هكذا أوضاع.
شبابنا يجب أن نقابلهم بالمودة ونتحمل غضبتهم ونلبي مطلبهم فهم ابناؤنا.