إحدى الطُرَف التي كان الشعب المصري يرويها، أن أحدهم أخبر الرئيس مبارك بقوله.. الشعب رايح قصر القبة، فأجابه الشعب رايح فين! أنا موجود في عابدين يجولي هنا وكان يعني أنه موجود بقصر عابدين، وسواء كانت الرواية صحيحة أم لا فهي تعبّر عن أن الرئيس هو الثابت والأصل، وأن الشعوب هي التي ترحل وتذهب!
ازدواجية السلطة والزعيم الأوحد الدائم علامة فارقة في التاريخ العربي بقديمه و حديثه ، فقد سالت الدماء بغزارة حتى بين الأخ و أخيه عند التنازع على كرسي السلطة ، و كلنا نعلم كيف أقصى المأمون أخيه الأمين و اوعز بالاجهاز عليه ، نسوق هذه المقدمة و نحن نتابع التطورات الدراماتيكية التي تسارعت و تأزمت حول مسألة إعادة ترشيح الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة زعيم جبهة التحرير الوطنية الجزائرية و أحد المجاهدين الوطنيين الذين شاركوا في معركة تحرير الجزائر و شغل وزيراً لخارجيتها و رئيساً لها منذ عشرين سنة عندما تسلم مهام منصبه في نهاية العشرية السوداء التي فتكت بالجزائر ونجح في إعادة وضع الجزائر على سكة الاستقرار والبناء من خلال ميثاق المصالحة والسلم الذي تعهد به، هذا بوتفليقة الذي عمل الكثير للجزائر و الذي كان يجاهر أن بلده غير مدينة لصندوق النقد الدولي و لو بدولار، و أنه لا يوجد قواعد عسكرية أجنبية في بلده بعكس باقي أغلب الدول العربية ، هذا الرجل يستحق التقدير و الاحترام ولهذا استمر بالحكم لأربع ولايات رئاسية ، لكنه اليوم يستحق فائق العناية و الاهتمام ، نظراً لوضعه الصحي الصعب و الذي أقعده عن المشي و الحديث و السمع الطبيعي و أصبح عاجزاً منذ شهور عديدة عن ممارسة مهامه الرئاسية.
لا نعتقد أن بوتفليقة "رسول المحبة والسلام "كما وصف نفسه ذات يوم يطلب من تلقاء ذاته إعادة ترشيحه و ليس لديه أمنية الموت على كرسي الرئاسة لاستحالة ذلك ، فالكرسي الوحيد الذي يستطيع أن يجلس عليه هو الكرسي المتحرك و الذي يحتاج إلى من يدفعه ، و إن صدق الخبر ، فإن المنتفعين و المنافقين له من حزبه هم الذين يدفعون بترشيحه ليستظلوا بمظلة الاحترام و المهابة التي يحظى بها آخر رموز المجاهدين الذين اعتلوا كرسي السلطة ، و هؤلاء لا يدركون مخاطر هبة الشعوب ، سيما إذا كان الشعب ما زال يعيش هاجس و تراث عريق في التحرر و الثورة كما هو حال الشعب الجزائري الذي تاق لموضوع تعاقب السلطة و تداولها بالطرق الديمقراطية ، و عبر عن ذلك بعفوية نقية لا يمكن تجاهلها و رميها بالمؤامرة كما يفعل بعض الزعماء مع الاستثناءات.
مفتي السلطان خلطوا له وصفة للخروج من مأزق الهبّة الشعبية الرافضة لترشحه ومن غرفة العناية المركزة التي يرقد بها الرئيس جنيف، لعل صحته و مزاجه يتحسن في غرفة الحكم المركزة، ومفاد الوصفة او التركيبة: انتخبوني لمدة سنة وساعدكم بالإصلاحات وسأتنحى عن الحكم ... والمعنى ان امنيتي هي الموت رئيساً، والشعوب تتساءل ما المعنى من البقاء لعدة شهور، ولماذا لا يباشر الرئيس بالإصلاحات منذ الآن! حتى هذا الرئيس ذو التاريخ المشرف لم ينجو من الفيروس العربي الموسوم " حاكم ابدي".
نفتخر بالجزائر، شعب المليون و نصف شهيد ، وندعو الله ان يحمي الجزائر و شعبها و رئيسها المتعب المستلقي على سرير العلاج ، ونتمنى ان يتحلى الشعب الجزائري بالصبر لمدة سنة أخرى ان لم يتراجع الرئيس ، ومن حوله من حجار الصحن ان لم يتراجع عن الترشح وهو الأسلم والأفضل والاضمن ، ويكتفي رسول السلام بالمحافظة على صورته النبيلة و أن يجنّب الله شعب الجزائر مخاطر الفوضى و التقاتل على السلطة و لعل الرئيس يستطيع ان يثبت أن هناك استثناءات على القاعدة العامة في تاريخنا العربي الذي يصاب فيه الزعماء العرب -الملهمون المسبحون في ملكوت الحكم- بداء البقاء بالسلطة ، فجيناتهم فاقدة المناعة لهذا الداء.