أغلب الحكام عبر التاريخ البشري كانوا طغاة، وأقصد بالطاغية هنا الحاكم الذي يتفرد بالسلطة وبالقرار ولا يعير أية أهمية لغيره في اتخاذ القرارات مهما كانت صغيرة أو كبيرة للدرجة التي يتوهم فيها أنه "لا ينطق عن الهوى" وأنه "صح مطلق"، وربما ولهذا السبب تولدت ثقافة "الطاعة"، أو "التقديس"، وتحول معظم الحكام قبل التاريخ وبعده إلى "آلهة" لا يجوز الخروج عن طاعتهم.
لقد ساهمت نظرية "الحاكم الإله" في تعزيز الهدوء للنفس البشرية المحكومة من خلال بعدين اثنين:
البعد الأول: الراحة من حيث وجود من يتولى إدارة الحياة العامة للإنسان في ظل الحاكم الشمولي "المقدس" وهو ما يوفر عليه الجهد في التفكير والتفكر في تفاصيل ومشقة الحياة وحتى المستقبل.
البعد الثاني: توفير واستحضار عنصر الأمان وتحديداً من البطش الناجم عن سلطات الحاكم "الإله" من خلال "عنصر الولاء والتبعية" ورفض الخروج عنه وعن معتقداته وآرائه.
وعبر التاريخ ووفقاً لهذا التفسير، فإن الطاغية كان يشكل "عامل أمان للرعاع" من المساكين وعديمي التعليم والفقراء، وهؤلاء بطبيعة الحال لا يريدون المجازفة بأي حال من الأحوال والوصول للحظة الاصطدام مع السلطة وتحديداً السلطة المتسترة بالدين أو بالهيبة الاجتماعية، وكان "الطاغية" بحكم هذا الواقع قادراً على تأسيس طبقة سياسية مرتبطة به تساهم في تعزيز مكانته وقدسيته مستثمراً ضحالة "الرعاع" وحاجاتهم المادية والاقتصادية وتحويلها إلى وسائل لابتزازهم وتعزيز قبضته عليهم وتحويلهم إلى "عبيد"، وهي المرحلة الخطرة التي تعيشها معظم شعوب العالم دون إدراك علمي لتفاصيلها ومنها المجتمعات التي تعتقد أنها متحررة وديمقراطية ولا تنتج "طاغية أو ديكتاتوراً" فيما هي تتشابه تماماً مع المجتمع الفرعوني ونموذج الفرعون قبل سبعة آلاف سنة.
نحن العرب أكثر الأمم التي مازالت تصنع "الطغاة"، وكنا من أوائل الأمم التي قدست الحاكم وخلقت اعرافاً من النفاق والتزلف للوصول لرضاه والتأكيد على الولاء المطلق له من أجل التكسب مادياً ومعنوياً، وتكرست بحكم هذا السلوك نوعية غريبة من "الطغاة"، فطغاتنا كانوا مميزين، وجمعوا القدسية الدينية مع المكانة الاجتماعية، وهو وضع مكنهم من الاحتفاظ بقدر من الاحترام حتى بعد زوال سلطاتهم، ولذلك وإن عدنا لكل الحكام العرب الذين زال "ملكهم"، أو انتهت سلطاتهم، سنرى أنهم الآن يحظون "بالترحم عليهم"، والاستشهاد بانجازاتهم مهما كانت صغيرة، بل ذهب البعض من الكتاب والمؤرخين إلى قراءات جديدة لحقب وتفاصيل حكم هؤلاء الحكام وخلصوا إلى أنهم كانوا افضل من حكام اليوم، في استنتاج يخلو في أغلب الأحيان من الدقة والعلم والموضوعية.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا وصلنا لذلك؟
في الجواب: نحن أتباع السلطة، إن كانت قائمة نحن معها، وإن اختفت فإما نشتمها أو نترحم عليها، وهي كارثة العقل السياسي العربي المليء بالتناقضات أو ما اسميه "العقل الحائر والضائع".
24: